فؤاد ابراهيم- جريدة السفير 2016-02-04
لم تكن علاقة المكوّنات الشيعية في الخليج مع ايران ملتبسة بالقدر الذي هي عليه الآن بسبب بلوغ الخلاف السعودي الايراني الذروة، إذ جرى تشويه العلاقة والذهاب بها الى ما ينسجم مع الصراع السياسي بين ايران والسعودية على النفوذ في المنطقة. إن التطابق المذهبي أو حتى المرجعية الفقهية بين مكوّنات شيعية في الخليج مع ايران لا يعني مطلقاً خضوع هذه المكوّنات سياسياً أو حتى ثقافياً. ويمكن المحاججة بأنه لم يظهر من هذه المكوّنات ما يفيد بالتماهي مع ايران، كما تفعل أحزاب وتيارات سياسية خارجية في بلدان عربية مثل لبنان واليمن والمغرب وباكستان وغيرها كانت ترفع في الميادين العامة والشوارع صور أمراء آل سعود خصوصاً (الملك وبن نايف وبن سلمان) وشعارات سياسية ترقى الى مستوى مبايعة هؤلاء والإدانة لهم بالطاعة والولاء.
السعار الطائفي الذي تفصح عنه مقالات كتّاب الصحف المحلية في السعودية ودول خليجية عبر عناوين لاهبة ومباشرة موجّهة للشيعة، وبقدر ما يرفع منسوب الاحتقان والتوترات الاجتماعية والأمنية، فإنه يكشف عن أزمة عميقة في الدولة الخليجية التي تضطر للاحتماء بخطاب الانقسام في مواجهة استحقاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية لا يمكن تأجيلها أو الهرب منها سوى عبر هذا النوع من خطاب اللادولة/الطائفة.
النصائح الملغومة والكيدية التي يطلقها كتّاب محليون لمن يصفونهم «العقلاء» و «المعتدلين» في المكوّنات الشيعية تؤشر الى تدهور خطير، ليس في مزاولة حرية التعبير بل في اعتناقها، لأن «المجانين» و «المتطرّفين» وفق السياق الذي تسدى فيه النصائح هم من خرجوا في شوارع القطيف وطالبوا بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، وهم من سقطوا برصاص قوات الداخلية، أو تعرّضوا للاعتقال، ومنهم من تمّ إعدامه أو صدرت بحقه أحكام بالإعدام في محاكمات سريّة وصورية. من هؤلاء سقط نحو 30 شهيداً لم يحمل سلاحاً، وكان سلاحه الكاميرا، ولم يعرف أرباب النصائح الملغومة هويات هؤلاء الشهداء، ليس لأنهم مجهولون، ولكن لأن وظيفة الأرباب تجهيل الرأي العام. وفيما أبقى هؤلاء عشرات الآلاف من الناشطين الذين خرجوا في تظاهرات سلمية منذ آذار 2011 وحتى اليوم خارج دائرة الضوء والكاميرا، حضر المندّسون وهم قلّة بكثافة عالية في كتابات «الناصحين» ليفرضوهم ممثلين حقيقيين عن الشيعة في المملكة السعودية. والهدف واضح: نفي الحراك المطلبي السلمي في المملكة وتشويه صورته وتبرئة السياسة القمعية ضد الناشطين بتصنيفهم في خانة «الارهابيين».
ما يلفت الآن أن لوثة الطائفية انتقلت من الدوائر السلفية الوهابية، لتشمل ليبراليين وعلمانيين، بل المضحك ان أقلاماً لكتّاب مسيحيين عرب أصيبت هي الأخرى بها. لحسن الحظ وسوء الطالع لن يواجه المراقب صعوبة في العثور على أمثلة للاستدلال، فلا تكاد تخلو صحيفة محلية من مقالة أو أكثر يخرج فيها أصحابها أسوأ الشرور الكامنة في النفس البشرية.
الإعلام والشحن الطائفي
في تبرير لبروز المخبوء الطائفي على طريقة جمال خاشقجي (لا أريد أن أكون طائفياً، إنني أكره نزعتي الطائفية المتنامية، ولكنك لا تساعدني ـ الحياة 21 حزيران 2013)، يكتب خالد الفضلي مقالة بعنوان «التشيع ليس خيانة للأوطان» (عكاظ 12 كانون الثاني 2016) يخلص فيه الى جعل الانتماء للمذهب الشيعي مكافئاً للخيانة للوطن الا ما خرج بالدليل، فيما يخيّر علي سعد الموسى من وصفهم في أكثر من مقالة «سدنة الخطاب الشيعي» في المملكة مرة بإدانة ارتكابات الحشد الشعبي في ديالى العراقية لإثبات وطنيتهم في السعودية، في مقايضة مع إدانته من موقعه السنّي للهجمات الارهابية في القطيف والدمام والإحساء (صحيفة الوطن، 7 كانون أول 2015، 11 كانون الثاني 2016). أما الكاتب المتنكب من السلفية المتطرّفة الى السلطوية المتطرّفة منصور النقيدان، فاختار للشيعة في المملكة السعودية فرصتهم الأخيرة في التماهي مع السلطان وإدانة الحراك المطلبي في القطيف للتعبير عن مطالب كان النقيدان في يوم ما نصيراً لها، ومن بينها حرية التعبير التي أرغمه غيابها في مملكة الصمت للهجرة الى الجوار الخليجي (عكاظ، 4 كانون الثاني 2016). وتمثّل مقالة محمد العوين في صحيفة «الجزيرة» في 23 كانون الثاني الجاري بعنوان «يا شيعة العوامية والقطيف تبرأوا من سفهائكم» ذروة الصرعات الطائفية في مطالبته الشيعة، مثقفين وأعيانا وأكاديميين وكتّابا بالظهور عبر القنوات التلفزيونية وإعلان «تبرؤهم من سفهائهم وإرهابييهم كما تبرأنا نحن السنة من سفهائنا وإرهابيينا»، والا فإن الصمت يعني «التأييد الضمني لجرائم هؤلاء الغلمان الإرهابيين»، وختم بالتلويح باستعمال القوة. العوين، شأن الموسى والنقيدان، يميل الى إعادة انتاج الرواية الرسمية في توصيم الناشطين في الحراك الشعبي المطلبي بالإرهاب ومساواتهم بالمقاتلين في صفوف «داعش» و «القاعدة» كونهم ينتمون الى جمهور السلطة وعقيدتها الوهابية. وفي كل الاحوال، فإن السلطة السياسية، صانع الرواية الوحيدة عبر إعلامها، تدافع عن نفسها عبر خلط الأوراق في ظل انتقادات على مستوى الـعالم لدور الوهابية كأيديولوجية مشتركة بين النظام السعودي والتنظيمات الارهابية.
خلق مناخ الاستقطاب والشحن الطائفي مزاداً مفتوحاً لصاحب كل بضاعة يجد في النظام السعودي زبوناً مؤكّداً أو محتملاً. ولأن الشيعة في الخليج هم الحلقة الأضعف من وجهة نظر تجار الكلمة وجهة الاستهداف التي تستجلب الرزق، أطلق بعض الأقلام أقصى خيالاته لنسج قصص حول «خيانة» الشيعة في الخليج لأوطانهم لمصلحة ايران. مثال: كتب سركيس نعوم في جريدة «النهار» سلسلة مقالات ينال فيها من الشيعة في الخليج عموماً والسعودية على وجه الخصوص في سياق الصراع السعودي ـ الإيراني. في مقالته «أميركي «لشيعة السعودية».. الآن وقت تحرّككم» المنشور في 21 كانون الثاني الجاري، كشف نعوم عن جهل بأركان الرواية الكاملة، فضلاً عن تاريخ الشيعة في السعودية والقوى السياسية والاجتماعية الناشطة، وديناميات عملها وطبيعة علاقاتها مع الداخل والخارج. استحضر العامل الخارجي (الاميركي والإيراني) لإثبات شبهة العمالة للخارج، وأن الحراك المطلبي ليس أصيلاً وأن مفاتيحه خارجية، قاطعاً صلته مع سياق «الربيع العربي» الذي طاف على كل بلدان الشرق الأوسط بنسب متفاوتة. الطريف أن استعجاله في عرض البضاعة دفعه للتخبط في سرد الإسم الوحيد في القصة المفبركة، فقد اختار للشيخ حسن الصفار إسماً آخر وهو «حسين النشار». وزاد الطين بلة، أن ثمة بليداً لفت نظره للخطأ، فغيّر الإسم الثاني وأبقى على الأول، وبرّر ذلك بضعف ذاكرته في الأسماء (لا حرب مباشرة في الخليج.. بل اشتباكات بالواسطة!، النهار 22 كانون الثاني 2016).
التهمة الرائجة: إيران
وبصورة إجمالية، يعتصم أكثر من يقاربون المسألة الشيعية في المملكة والخليج عموماً بالتهمة الرائجة بأن إيران هي من تحرّك الشيعة في المنطقة الشرقية للخروج في مسيرات مناهضة للنظام السعودي. يقفز هؤلاء على حقائق التاريخ والجغرافيا والسياسة، وكأن المنطقة الشرقية لم تحتضن حركات الاحتجاج بكل أطيافها الايديولوجية (القومية و «البعثية» والناصرية واليسارية وحتى الاسلامية في نسختها العراقية) منذ خمسينيات وصولاً الى سبعينيات القرن الماضي، بل حتى بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، لم تشارك أي من قياداتها في تنظيم أو توجيه انتفاضة المنطقة الشرقية في محرم من العام 1400 للهجرة/كانون أول 1979، ولو ثبت لما تردّد وزير الداخلية آنذاك الأمير نايف في التصريح بذلك.
وقد بات معلوماً أن النظام السعودي ومن يدور في فلكه وبوحي من هواجسه التي تجدّدت وتعاظمت مع دخول الاتفاق النووي بين ايران والغرب حيز التنفيذ، بات يتصرف بجنون الخائف على مصيره، وراح يبطش بكل ما يملك من قوة للتمويه على ضعفه وفشله وهزيمته.
في النتائج، ما يفعله النظام السعودي اليوم هو معاقبة المواطنين الشيعة على انتصار ايران، التي نجحت في كسب جولة المفاوضات النووية مع الغرب واستطاعت انتزاع اعتراف بحقها النووي. من جهة ثانية، إن خشية آل سعود من تثمير إيران للاتفاق النووي والانفتاح على الغرب من خلال تعزيز نفوذها السياسي في المنطقة يدفع النظام الى تضييق الخناق على الشيعة في هذه المنطقة، وعليه فإن من يتعمد الربط بين شيعة الخليج وايران ليس الشيعة، وإنما هو النظام السعودي نفسه الذي يزيد في وتيرة تدابيره القمعية ويواصل سياسات التهميش والإقصاء ضدهم، وبالتالي هو من يريد رؤيتهم في هيئة طابور خامس لإيران كي يضفي مشروعية على وجوده ودوره القمعي والإلغائي..