محمد علوش- البيت الخليجي-
يتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون العام 2023 هو الأضعف على مستوى العالم في النمو الاقتصادي منذ العام 2009 ، مصحوبا بحالة ركود تضرب ثلث العالم على الأقل. وهو أمر من المرجح أن يتبعه انخفاض في حجم الطلب على النفط على المدى المتوسط. وبما أن دول الخليج ترتكز في اقتصاداتها على تصدير النفط ومشتقاته، فإن إمكانية التأثر بهذا الاضطراب تبدو مرتفعة.
سياسيًا، يقارب قادة الدول الخليجية الواقع الدولي كإرهاص لولادة عالم متعدد الأقطاب، لم تعد الولايات المتحدة تلعب فيه دورًا مركزيًا كما كانت منذ الحرب العالمية الثانية. هذا النظام المتعدد الأقطاب ليس على مستوى ونسق واحد، بل مختلف التأثير والاتجاهات.
الغزو الروسي لأوكرانيا يعتبر أخطر صراع عسكري في أوروبا منذ عقود، وتأثيراته البعيدة على أمن دول الخليج ومصالحها غير معروفة حتى الآن، على الرغم من أن مواقف دول الخليج تجاه الصراع اتسمت بالحياد والاستقلالية بعيدًا عن الرغبة الأميركية. فرض عقوبات غربية على روسيا التي تمتلك أكبر خطوط إمداد الطاقة للعالم وضع الأخيرة في منافسة حادة مع دول الخليج حول خطوط الإمداد.
الحالة هذه من عدم اليقين لا تقتصر على المشهد الدولي، بل تنسحب على المنطقة العربية. الحروب القائمة في ليبيا وسوريا واليمن لم تظهر أي مؤشر على قرب نهايتها. وبدلاً من ذلك، تطورت وأصبحت مستعصية على الحل، كما لا يزال العراق في حالة من التوتر وعدم الاستقرار.
داخلياً، هناك تحديات منهجية تواجه دول مجلس التعاون خلال عام 2023 تتمثل في رفع الاستثمار الأجنبي المباشر، ومكافحة الفساد، وسوء الإدارة، وسدّ فجوة مهارات اليد العاملة.
سلسلة الأزمات والتحديات المرتبطة ببعضها، أملت على قادة دول الخليج اجتراح مقاربات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة طوال عقد من الزمن. فتمّ تعديل زاوية النظر للدول الطامحة إلى لعب دور مؤثر مثل تركيا وروسيا، وإيران، والهند، والصين.
تطبيع العلاقات مع تركيا
يسيل لعاب تركيا أمام الإغراء الروسي بمنحها امتيازاً لتصدير الغاز إلى العالم عبر أراضيها في محاولة للتحايل على العقوبات الغربية المفروضة على تصدير الطاقة الروسية. رصيد تركيا في كسب نقاط القوة ازداد إقليميًا بعد نجاحها في الموازنة في علاقاتها بين روسيا والغرب وتمكنها من انتزاع دور الوسيط الموثوق في بحث سيناريوهات الحل السياسي للأزمة الأوكرانية، فضلاً عن نجاحها في تسهيل تصدير الحبوب إلى العالم. الأداء السيء للاقتصاد التركي لم يحل دون توظيف أنقرة نجاحاتها الدبلوماسية في استحصال غطاء سياسي دولي يمكنها من التوغل عسكريًا في سوريا والتوسع في عملياتها العسكرية في العراق للقضاء على التهديد الكردي لأمنها القومي.
اصطحابًا لما سبق، يُدرك قادة الخليج أن النفوذ التركي قائم في منطقة الخليج وأن احتواؤه أضحى أقل تكلفة من مواجهته بعد الانفراجات السياسية بين تركيا وكلّ من السعودية والإمارات والبحرين ومصر. ولربما يصبح توظيفه أداة خليجية مناسبة لتخفيف الضغط الإيراني كون البلدين يتنافسان على النفوذ في المنطقة، ولا سيما أن تركيا أكثر برغماتية من إيران في نظرتها لمنطقة الخليج. وهي تبحث عن شراكات اقتصادية تضخ مالاً في أسواقها وتكبح جموح التضخم في حين لا تبحث إيران سوى عن اعتراف بنفوذيها الأمني والسياسي في المنطقة.
معضلة النفوذ الإيراني
إعادة تطبيع العلاقات مع تركيا جاء ضمن مقاربة استراتيجية أوسع سعت من خلالها السعودية إلى تخفيض حدة التصعيد في المنطقة ما أمكن. ففي ربيع 2021 بدأت الرياض حوارًا مع طهران في بغداد. الهدف منه كان تقديم مقاربة للأزمة اليمنية مع توجيه رسالة سعودية لواشنطن أن الرياض أكثر مرونة مما تعتقد إدارة البيت الأبيض. وعلى الرغم من جولات الحوار المتكررة إلا أن كيفية مقاربة العلاقة مع إيران تبقى معضلة بين دول الخليج. القلق الدائم من طهران وتوسع نفوذها في سوريا واليمن والعراق ولبنان حمل عواصم خليجية للتقارب مع إسرائيل فيما يعرف باتفاقات السلام الإبراهيمي لعام 2020 برزت فيها الإمارات والبحرين والسودان، مدفوعة بدعم غربي يُفضل تقارب دول الخليج مع إسرائيل على إمكانية تفاهمها مع إيران.
المفاوضات من أجل إحياء الاتفاق النووي مع إيران وصلت إلى طريق مسدود حاليا. احتمالية العمل العسكري ضدها غدت مرتفعة. وبما أن التقارب الإيراني الروسي على الصعيد العسكري تحول إلى ما يشبه حِلفا ضد الغرب، فإن منسوب خروج الأمور عن السيطرة في المنطقة شديد الخطورة، ولا سيما أن حالة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها المدن الإيرانية منذ عدة شهور قد تغري بالعمل العسكري لاستغلال الجبهة الداخلية.
محاذير التقارب مع الصين
يرى قادة الدول الخليج أن الصين لم تعد مجرد قوة إقليمية طامحة بقدر ما أضحت لاعبًا دوليًا مؤثرًا في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. ولهذا تبدو الفرصة متاحة الآن، وقد تكون نادرة بالنسبة لدول الخليج لتتمكن من تنويع اعتماداتها الأمنية والعسكرية، وحماية سياسات وإمدادات الطاقة، وتوفير فرص الاستثمار، وبناء شراكات إستراتيجية تمكّنها من نقل المعرفة العلمية وتوظيفها محلياً.
ترجمت هذه التطلعات محاولات الأمير محمد بن سلمان إنشاء خط إنتاج للطائرات بدون طيار الصينية في السعودية في إطار تعزيز التعاون الدفاعي، وإنشاء وتطوير صناعة دفاعية محلية، وتوقيع 34 شركة سعودية وصينية اتفاقات استثمارية بقيمة 29 مليار دولار تغطي مجالات الطاقة، والهيدروجين الأخضر، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات الطبية، والإسكان، وبناء المصانع، وغيرها.
يغدو التقارب مع الصين بالنسبة إلى دول الخليج في أحد أشكاله تحوطًا استراتيجيًا ضد انسحاب أمريكي أو تنصل محتمل من التزام واشنطن بأمن المنطقة. لكن الولايات المتحدة ترى في تنامي النفوذ الصيني في الخليج تهديدًا للأمن والأمن السيبراني، وطريقا يسهّل المراقبة على القوات الأميركية الموجودة في المنطقة، ولا سيما مع توقيع السعودية وعملاق الاتصالات الصيني هواوي اتفاقيات تعاون.
من المخاطر المتوقع حدوثها نتيجة التقارب الصيني الخليجي على المدى البعيد حلول بكين مكان واشنطن كضامن لأمن المنطقة كما كانت عليه الولايات المتحدة لعقود خلت. وهكذا يتحول النفوذ من أمريكي غربي إلى صيني لديه مصالحه الخاصة المتنامية التي قد تتعارض يومًا مع المصالح الخليجية، وبخاصة أن الصين تربطها اتفاقيات وشراكات إستراتيجية مع إيران في الوقت الذي تتقارب فيه مع دول الخليج. هذا خلاف طبعاً لما عليه الولايات المتحدة منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م.
إن سعي الطرفين الخليجي والصيني في بناء شراكات حول سياسات الطاقة وأمن إمداداتها يخلق قلقا هنديا متصاعداً أيضاً، حيث تنشر الهند الآن سفنها الحربية بانتظام في بحر العرب وخليج عدن، وتعمل على خلق تعاون عسكري مع منطقة الخليج. وهي تفضل أن تبقى الولايات المتحدة الضامن لأمن دول الخليج وامدادات الطاقة، في حين يساورها القلق على أمنها ومصالحها من تنامي نفوذ الصين في المنطقة.
الخاتمة
إن عملية الاستدارة التي بدأتها السعودية وتلتها دولة الإمارات لجهة تخفيف الاشتباك السياسي مع قطر، ثم مد جسور التواصل مع تركيا، وصولا إلى بدء حوارات سرية مع إيران في بغداد بواسطة عراقية جاءت جميعها في إطار عملية تقييم شرعت فيها-على ما يظهر- جميع الأطراف الفاعلة في دول الخليج، من أجل التعاطي الأمثل لمصالحها مع أغلب الملفات الشائكة من ليبيا وسوريا وتركيا وصولا إلى اليمن وإيران.
تقوم المقاربة الجديدة على قاعدة إعادة ترتيب البيت الخليجي ضمن بناء توافق داخلي صلب، وتخفيف حدة المواجهة مع تركيا، وإعادة تقييم تداعيات الانخراط في مناطق النزاع مثل سوريا وليبيا التي استحالت مناطق استنزاف دون حسم مطلق، وصولًا إلى رغبة دفع الحوار مع إيران قدمًا، تحسبًا لأي تغيير في ملفها النووي مع القوى الدولية سواء تصعيدًا أو حلًا، مع إعادة تفحص مدى قدرة الاستدارة شرقًا صوب الهند والصين. فهل ستنجح دول الخليج في استكمال استدارتها وتجنيب منطقتها أي ارتدادات سلبية لاحتمالات ولادة صراعات عسكرية جديدة على غرار ما يحدث في أوكرانيا؟