(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
للمرّة الثّانية خلال أيّام، تُقرّر المملكة العربيّة السعوديّة تَفجير قنبلة جديدة، ومدوّية، بشأن علاقاتها الآخذة في النّمو والتّسارع مع التّنين الصيني، هذه المرّة جاءَ شكلها أكثر دراميّة من مسلسلات وبرامج شهر رمضان الكريم على الشّاشات العربيّة، بترؤس الملك سلمان بن عبد العزيز اجتماعًا لمجلس الوزراء، وإعلان انضمام المملكة إلى منظّمة شنغهاي للتّعاون، بقيادة الصين.
قنبلة ما كان لها أن تمرَّ ببساطة، الكلّ مشغول بتحليل الخطوة السعوديّة الجديدة نحو بكّين، عقب أيّام من قرار المُصالحة مع إيران، وأيضًا بوساطة صينيّة، هل تفكّر المملكة حقًا في طَي صفحة التبعيّة للسياسة الأميركية، أم هي قد قرأت أنّ نَجمة المستقبل تلمع فوق الشّرق وتوشك على التحرّك من ضفاف الأطلنطي، هل هي مُناورة جديدة، وكُبرى، من المملكة في وقتٍ حرج يمرّ به العالم، أم أنّها مجرّد خطوة نحو أضخم أسواق النّفط السّعودي، ضمانًا وتأمينًا للمستقبل من تطوّرات غامضة.
القرار الجديد، عقب المصالحة ثمّ إعلان "أرامكو" أكبر شركة نفط في العالم ضخ مليارات الدولارات إلى مشروعات جديدة في العملاق الآسيوي، وإتمام مشروع صناعي مشترك شمال شرق الصين، والدخول إلى السّوق الصينيّة بالاستحواذ على حصّة في مجموعة بتروكيماويّات ضَخمة، وتمّ الاتّفاق عليها خلال زيارة الرّئيس الصّيني شي جين بينغ إلى المملكة، وصولًا إلى توقّعات متفائلة تجزم بأنّ السعودية قادمة إلى قرار كبير باعتماد اليوان الصيني في معاملاتها الدّولية، إلى جوار الدولار.
قراءة الخطوة السعوديّة يجب أن تأخذ في اعتبارها وأولويتها تحديد المقصد أولًا، منظٍمة شنغهاي للتّعاون هي منظّمة أوروآسيوية، انطلقت بمُشاركة 6 حكُومات هي الصين، روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان في حزيران/ يونيو 2001، ودخَلت حيّز التّنفيذ في العام التّالي، قبل أن تنضم الهند وباكستان إليها في 2017، تمثّل الدّول الثّمانية كاملة العضويّة في المنظّمة نصف سكّان العالم ورُبع النّاتج المحلّي الإجمالي في العالم، ووقّعت إيران العام الماضي ميثاق العضويّة الكاملة فيها.
قامت المنظّمة التي تنسّق الجهود والإمكانيّات لخلق تعاون اقتصادي وسياسي.. و"عسكري"، بين جمهوريات الاتّحاد السوفييتي السّابق وروسيا والصين، أساسًا لمواجهة تحديّات الحركات الإسلاميّة في أواسط آسيا، بين الشعوب المسلمة في فضاء هش أعقب الانهيار السوفييتي الكبير، وتركت المنطقة الواسعة نهبًا لحركات انفصاليّة، والأهم عارية أمام التدخّلات والمخطّطات الأميركيّة للتّأثير في الجوار المباشر للقوّتين المهمّتين، الصّين وروسيا.
والمتتبّع لتاريخ السّياسة الخارجيّة السعوديّة، خلال فترة الحرب الباردة، يَعلم يقينًا أنّ الرّياض دخلت إلى هذه المنطقة كرأس حربة للمخطّطات الأميركيّة للتّأليب وإثارة القلاقل في خاصرة السوفييت الرّخوة، ثمّ تحوّلت إلى فاعل أساسي عقب الغزو الرّوسي لأفغانستان، وتوّلت مهمّة حشد الجهود إلى جانب المجاهدين الأفغان المسلمين ضدّ الاتّحاد السوفييتي المُلحد، هكذا وصفت هذه الحرب، وأكسب هذا الدّور السعوديّة أهميّة فارقة بالنّسبة للسياسة الأميركيّة، لتُصبح الرّياض اللاعب رقم 1 بالنّسبة لواشنطن.
هل قرّرت السعوديّة اليوم تغيير جلدها والانضمام إلى أعدائها السّابقين، في منطقة كانت –ولا تزال- مسرحًا لتأثير سعودي واسع، بفعل وجود إسلامي يرى في المملكة أهم وأكبر الدول الإسلامية، وفوق كلّ شيء قبلة وممثّل للعقيدة، هذا الرأي ببساطة فوق ما تحتمله الحقائق، وأبعد ممّا يؤكّده التّاريخ والوقائع الثّابتة، والتّعاون الأمني بين دول "مجموعة شنغهاي" سيفرض أو ما يفرض على السعودية أن تُطلق دورها السّابق وتتخلّى عن أوراقها.
لا تعدو الخطوة الجديدة مناورة أكبر، تُحاول بها الرّياض جذب الانتباه الأميركي، وفرض أجندتها على واشنطن، بالتّذكير بأوراق تملكها في جعبتها، وتستطيع بها اللّعب مع/ ضدّ المصالح الأميركيّة في منطقة صارت هي الأهم بالنّسبة للإمبراطوريّة المتراجعة، وهي في ذلك كلّه تتبع مبدأ "الغاية تُبرّر الوسيلة"، السياسة القديمة التي طرحها الإيطالي نيقولا ميكيافليي في كتابه الأمير.
إنّ المرونة في الحركة السياسيّة تكتيكيًا مطلوبة، وبشدّة، مع أحداث وتغيّرات مُتسارعة ومُتشابكة، تَقتضي اقتناص ما تُتيحه من فُرَص أو تَكشفه من عقبَات ومُفاجآت، شرط أن يكون القرار الإستراتيجي ذكي ومُحدّد ومسؤول، وأن يكون الجُهد واعيًا، يرى الخطر إذا لاح، ويسبق الخطر قبل أن يتأكّد.
قد تكون فكرة ميكيافليي صالحة بعض الوقت في الحصول على الأرباح والفوائد من العلاقات الدّولية، لكن مُخطئ من يظنّ إنّها تنفع كلّ الوقت، فالسّياسات الجيّدة مفتاح للنّجاح، والوسائل المتلوّنة لن تكون إلّا مقدّمة للسّقوط، العالم بالنّهاية يحترم المبدأ ويقوم على تغيير التّكتيك لا الإستراتيجيّة، وخطوات نصف كاملة تجاه الصّين لن تزيد على أن تكون شراءً لعداء هذا القطب الهائل في المُستقبل.