ما بين صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في وقت مبكر من عام 2000، وما بين اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، بدا أن نهج السياسة الخارجية التركية، «صفر مشاكل مع الجيران»، هو نهج يستحق الثناء. واليوم ربما فإن أفضل وصف للسياسة الخارجية التركية هو «صفر جيران دون مشاكل». واستجابة للثورات العربية التي وقعت في عام 2011، فإن أنقرة قد انتقلت من استخدام قوتها الناعمة نحو إبراز القوة الصلبة في كل من العراق وسوريا بشكل خاص. وقد أغضب هذا التحول العديد من حكومات الشرق الأوسط من مصر إلى إيران، ومن العراق إلى الإمارات.
في خضم النكسات الكبرى والاستراتيجيات الفاشلة في الشرق الأوسط المضطرب، بدأت القيادة التركية في النظر نحو قطر بوصفها الحليف العربي الأكثر موثوقية. في واقع الأمر، فإن إعلان سفير أنقرة في الدوحة العام الماضي عن خطط إنشاء قاعدة عسكرية تركية قطرية مشتركة في قطر لم يكن خارجا عن السياق الجيوسياسي. في القلب من الاتفاق السياسي والعسكري اللاحق لتركيا مع الدوحة كان يقع الاعتراف العلني أن كلا من الدولتين تواجهان أعداء مشتركين، وتقومان برعاية نفس الجهات الفاعلة غير الحكومية، كما أن لديهما مواقف متماثلة بشأن العديد من الأزمات الإقليمية وتشتركان في نهاية المطاف في عدة أهداف طويلة الأمد.
وبموجب الاتفاق السابق الإشارة إليه، تعهدت تركيا بحماية قطر من التهديدات الخارجية. ويأتي هذا الاتفاق كتطور طبيعي للتعزيز التدريجي للعلاقات العسكرية بين البلدين منذ اتفاق التعاون في الصناعات العسكرية الذي وقعه البلدان في عام 2007. وقع البلدان اتفاقيتين عسكريتين لاحقا في عام 2012. وينص الاتفاق الحالي أيضا على تبادل المعلومات الاستخباراتية، إضافة إلى تواجد 3000 من أفراد الجيش التركي في قطر. وفي مقابل التزام تركيا بأمن الإمارة الخليجية، عرضت الدوحة المساعدة في تعويض الفاقد من السياحة الروسية إلى تركيا منذ حادث إسقاط الطائرة مطلع نوفمبر/تشرين الثاني. هناك مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار تلوح في الأفق إضافة إلى وعود وضمانات بتصدير الغاز في حال قررت موسكو مواصلة معاقبة أنقرة من خلال حجب إمدادات الغاز الطبيعي في المستقبل.
مصالح تركيا
بالإضافة إلى ذلك فإن الإعلان عن قاعدة عسكرية تركية قطرية يأتي محملا بالعديد من الدلالات الرمزية. منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية ثم الثورة الإيرانية عام 1979، فإن النخبة الكمالية في تركيا ظلت تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط كمنطقة خطرة ومعقدة تعاني من العنف القبلي والطائفي، والأصولية الدينية. وخلافا لحزب العدالة والتنمية، الذي حرص على تأكيد النفوذ التركي في منطقة الشرق الأوسط، تقدر المعارضة العلمانية في تركيا الجهود الرامية إلى تحسين علاقات أنقرة مع الغرب، بدلا من العالم العربي المضطرب.
بعد ما يقرب من 100 عام من مغادرة قوات الحامية العثمانية للخليج فرارا إلى إيران في أعقاب مواجهات عنيفة مع البريطانيين، فإن عودة الجيش التركي إلى قطر تتلاءم مع طموحات العثمانية الجديدة من جانب الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان». سواء توفرت الأدلة على سعي تركيا إلى استعادة أمجاد العثمانيين، أو لم تتوفر، فمن الواضح أن أنقرة مهتمة بإظهار النفوذ في الأراضي التي كانت خاضعة لحكم العثمانيين بما في ذلك السواحل الجنوبية للخليج. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المنطقة تمثل سوقا مربحا للسلاح لا ضير من الاستفادة منه.
إعادة تأكيد النفوذ الروسي في جميع أنحاء المنطقة، والأهم في سوريا، يغذي بالتأكيد هذا الطموح التركي في الوقت الذي صارت فيه العلاقات التركية الروسية أكثر توترا. على الرغم من أنه قبل عام 2011 كان هناك الكثير من الحديث عن تعميق العلاقات بين روسيا وتركيا في مجال الطاقة فإن رهانات كل من أنقرة وموسكو المتعارضة في الحرب الأهلية السورية قد وضعت كلا البلدين في مواجهة بعضهما البعض.
وبالمثل، عانت علاقات تركيا مع إيران أيضا في الوقت الذي تجد فيه كل من أنقرة وطهران نفسيهما على طرفي نقيض في الصراع السوري. وعلى الرغم من كون واحدة من مبادرات السياسة الخارجية التركية في منتصف وأواخر العقد الماضي كانت تهدف إلى تحسين علاقات تركيا مع الجمهورية الإسلامية في إطار سياسة «صفر مشاكل مع الجيران»، فإن الحرب في سوريا تسببت في توتر العلاقات على الرغم من أن العلاقات الاقتصادية لا تزال قوية.
وقد تسبب استمرار الدعم الروسي والإيراني للنظام السوري في انتكاسات متتالية لسياسة تركيا في سوريا، التي سعت للإطاحة بـ«بشار الأسد» لتحل محله حكومة إسلامية سنية أكثر ودا تجاه تركيا. في المقابل، وجدت تركيا قضية مشتركة مع دول الخليج العربي في رعاية نفس الجهات الفاعلة في الصراع السوري، وخاصة مع قطر حيث يشترك البلدان في تفضيلهما للحركات الإسلامية السنية. دخول روسيا إلى الصراع السوري وتحولها إلى لاعب رئيسي في الشرق الأوسط عقد من خطط تركيا لتوسيع نفوذها في المنطقة. تعميق التعاون بين موسكو وطهران، التي توسع نفوذها أيضا في العالم العربي، أعطى دوافع إضافية لتركيا للاستمرار في تحالفها المضاد لاسيما بالنظر إلى عدم وجود اهتمام من الولايات المتحدة في القيام بدور قيادي في تغيير النظام الأمني الإقليمي. وكانت قطر هي الهدف الأول نظرا لانحيازها بشكل واضح للرؤية الإقليمية لحزب العدالة والتنمية.
السياسة الداخلية تدخل في المعادلة أيضا. من خلال توسيع الوجود العسكري للبلاد في الخارج، فإن إنشاء قاعدة عسكرية مشتركة مع قطر يخدم استراتيجية «أردوغان» الرامية إلى اللعب بورقة القومية على الساحة الدولية، وبالتالي تحويل الانتباه عن المشاكل الداخلية. «أردوغان» ليس الزعيم الأول في التاريخ الذي يقوم بذلك، ولكن ميله إلى ذلك النوع من الحكم السلطوي لم يكن واضحا بهذا الشكل قبل اليوم. تصرفات «أردوغان» تثير تساؤلات ليس فقط بين منتقديه في تركيا، ولكن أيضا بين الكثيرين في صفوف المجتمع الدولي، حول الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها طموحاته السياسية على السياسة الخارجية لتركيا.
مصالح قطر
على الرغم من كونها دولة ثرية وغنية بالمعادن، فإن قطر هي واحدة من أصغر الدول في منطقة الشرق الأوسط، وتحيط بها قوى أكبر منها بكثير. من أجل حماية سيادة بلادهم وأمنها، اعتمد المسؤولون في الدوحة تاريخيا على الدعم الأجنبي في مجال الدفاع. وبوصفها حليفا عسكريا رئيسيا للولايات المتحدة في المنطقة، فقد استضافت الدوحة مقر القيادة المركزية الأمريكية في المنطقة. وبوصفها عضوا في مجلس التعاون الخليجي، تعتمد قطر بشكل كبير على علاقاتها مع واشنطن والرياض للأمن الداخلي. وتعتمد استراتيجية الدوحة للأمن الدولي على تبني مجموعة من الدول كشركاء للدفاع والاستفادة من المصالح الجيوسياسية المتعارضة من أجل تعزيز المصالح الوطنية لدولة قطر في هذه العملية.
وعلى الرغم من كونها دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، فإن قطر طالما اعتبرت أن المملكة العربية السعودية جارة متكبرة لا تحترم سيادة الدول الخليجية الصغيرة واستقلالها. وشهدت العلاقات بين البلدين خلافات كبيرة في الماضي. ويبدو أن بناء علاقات مع أنقرة هو وسيلة لقطر للحفاظ على بعض خياراتها مفتوحة والحفاظ على بعض المجال للمناورة تحت الموقف السعودي المهيمن. وليس المقصود من إنشاء القاعدة العسكرية التركية القطرية المشتركة أن تكون بديلا عن القيادة المركزية الأمريكية، ولكنه يأتي في إطار سعي الدوحة نحو تنويع شبكة شركاء الدفاع في الوقت الذي توفر فيه ل أكثر دول العالم نفوذا حول العالم أصولا مستقرة في الإمارة المزدهرة.
المشهد الأمني في الخليج
لسنوات عديدة عملت السياسة الخارجية لدولة قطر بشكل فعلي خارج إطار دول مجلس التعاون الخليجي. تسبب النهج المستقل للدوحة في سياستها الخارجية في كثير من الأحيان في إغضاب المسؤولين في الرياض وأبوظبي، الذين اتهموا القطريين بتقويض الأمن الجماعي لمجلس التعاون الخليجي. وكان دعم قطر للإخوان المسلمين مصدرا للتوتر بين الدوحة ودول الخليج العربي الأخرى. في نظر العديد من الأنظمة العربية، فإن قناة الجزيرة المملوكة للدولة في قطر هي مجرد بوق لجماعة الإخوان المسلمين.
في مارس/أذار عام 2014، أثار هذا التوتر أزمة دبلوماسية تسببت في قيام كل البحرين والإمارات والمملكة العربية السعودية بسحب سفرائهم من قطر في محاولة لمعاقبتها على دعمها لجماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من عودة السفراء بحلول نوفمبر/تشرين الثاني، فإن أمير قطر الجديد الذي صعد إلى العرش بحلول عام 2013 فهم أن استراتيجيات السياسة الخارجية لوالده أثبتت أنها عالية التكلفة. وقام الأمير «تميم» بعمل رائع في إصلاح علاقات الدوحة مع سائر دول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، لا يزال دعم قطر للفصائل إسلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشكل مصدرا للتوتر في العلاقات بين قطر ودول الخليج خصوصا الإمارات إضافة إلى مصر. من خلال تعميق العلاقات مع تركيا، التي لديها جدول أعمال للسياسة الخارجية يتشابه مع نظيره القطري، فإن الدوحة تسعى لتأمين قدر أكبر من النفوذ في مواجهة جيرانها في الخليج من خلال تعميق شراكتها العسكرية مع حليف غير خليجي.
ما هي المخاطر التي يمكن أن تواجهها السعودية من تلك القاعدة التركية القطرية؟ من ناحية، كانت هناك توترات بين الرياض وأنقرة بسبب دعم الأخيرة لجماعة الإخوان المسلمين ولاسيما ضد الرئيس «عبد الفتاح السيسي» في مصر. يخشى البعض في المنطقة من أن حزب العدالة والتنمية كان يأمل في ركوب موجة انتصارات جماعة الإخوان المسلمين في بلدان الربيع العربي سعيا إلى الهيمنة على المنطقة العربية. في ضوء ذلك، فإن علاقة وثيقة قطرية تركية قد تقلق المملكة العربية السعودية.
من ناحية أخرى، من المهم أن نشير إلى تناقص التوتر بين المملكة العربية السعودية وتركيا منذ اعتلى الملك «سلمان» العرش في أوائل عام 2015. ومع كونه يرى الإخوان المسلمين أقل خطرا مقارنة بسلفه الملك «عبد الله»، فقد تطلع إلى إمكانية أكبر للتعاون مع أنقرة في مواجهة الأزمة السورية. من هذه الزاوية، يمكن للمملكة أن تعتبر الوجود العسكري التركي في قطر يتماشى مع مصالحها في الوقت الراهن. في الواقع، فإن الرياض والدوحة وأنقرة يتشاركون جميعا في الوقت الحالي العديد من الأهداف المشتركة في المنطقة، ليس فقط في سوريا، ولكن أيضا في اليمن حيث تدعم الحكومات الثلاث استعادة الحكومة المعترف بها دوليا للرئيس «هادي».
ولكن كما هي العادة، فإن إيران تعلب دائما دور الفيل في الغرفة. في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فاجأ ولي ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» العالم بإعلانه عن تشكيل تحالف إسلامي عسكري مكون من 34 دولة في غياب ملحوظ لإيران والعراق، وهو التحالف الذي يبدو أنه يهدف إلى تعزيز جدول الأعمال السني. ربما تتقبل الرياض برحابة في نهاية المطاف أمر القاعدة العسكرية المشتركة فضلا عن الدور العسكري التركي في أمن الخليج. ونظرا للحرب الباردة الدائرة بين السعودية وإيران، فإن السعودية سوف تظل متقبلة للقاعدة التركية القطرية طالما أن البلدين لا يزالان يتبنيان نفس مبادئ السياسة الخارجية الخاصة بها وبخاصة في سوريا واليمن.
هناك عضوان آخران ضمن التحالف الإسلامي ربما يكون لديهما بعض التحفظات بشأن الأمر وهما الإمارات العربية المتحدة ومصر. لدى كلا البلدين مشاكل كبيرة مع كل من أنقرة والدوحة بسبب دعمهما لجماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط. الانتقاد العنيف الذي وجهه «أردوغان» للجيش المصري بسبب إطاحته بالرئيس «محمد مرسي» في يوليو/تموز عام 2013 قد دفع مصر إلى تخفيض مستوى علاقاتها مع تركيا. أحكام الإعدام التي أعلن عنها مؤخرا بحق ستة من الصحفيين من بينهم اثنين من قناة الجزيرة بتهمة تسريب أسرار الدولة إلى قطر تؤكد انعدام الثقة بين القاهرة والدوحة.
في السنوات الأخيرة، حملت كل من تركيا والإمارات أجندات متعارضة في كل من مصر وليبيا. في الشهر الماضي قامت أبوظبي بتعيين سفير جديد لها في أنقرة بعد 3 سنوات من قيامها بسحب سفيرها لدى تركيا ردا على إدانة أنقرة للإطاحة القسرية بحكم «مرسي» في القاهرة. وتشير هذه الخطوة إلى وجود رغبة لدى الجانب الإماراتي في التقارب مع القيادة التركية.
ملء الفراغ
في الوقت الذي تحتضن فيه قطر تركيا كشريك للدفاع خلال فترة من الاضطراب المتزايدة في المنطقة، فإن المسؤولين في الدوحة يتابعون أيضا تحركات دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى التي تحولت أيضا للبحث عن شركاء جدد لأمنها. يسعى المسؤولون في دول مجلس التعاون الخليجي للاستجابة إلى ما يرونه على أنه تناقص اهتمام واشنطن بمنطقة الشرق الأوسط، ما يتطلب إعادة ترتيب النظام الإقليمي. وعلاوة على ذلك، تخشى دول الخليج العربية من تراجع قيمتها الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في أعاقب ذوبان الجليد بين الأخيرة وبين إيران.
تراجع الولايات المتحدة عن لعب دورها السابق كشرطي للمنطقة خلق فراغا غير مرغوب فيه من قبل العديد من حلفائها، وولد الحاجة إلى بنية أمنية جديدة للمنطقة. التحالف الإسلامي العسكري، إضافة إلى سائر المبادرات العسكرية التي تقودها المملكة العربية السعودية، هي جزء من محاولة إعادة تعريف الهيكل الأمني للمنطقة. ويمكن أيضا أن ينظر إلى التحالف العسكري التركي القطري الجديد في نفس الضوء، ولكن يبقى السؤال حول ما إذا كان هذا التحالف سوف يتطور إلى محور مستقل في المنطقة أم أنه سوف يظل تحت إطار التحالف السني الكبير الذي تتصوره الرياض.
على الرغم من أن حكام الخليج العربي مصممون على الحفاظ على تحالفهم مع الولايات المتحدة، فإن سائر دول مجلس التعاون الخليجي تواصل الترتيبات الدفاعية الخاصة بها لضمان أمنها لسنوات قادمة. عمقت دول مجلس التعاون الخليجي بالفعل علاقاتها الدفاعية مع فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، روسيا وبريطانيا في الوقت الذي حرصت فيه تركيا على اغتنام الفرصة لدخول المشهد الأمني المتطور في منطقة الخليج. الطريقة التي سوف تتعامل بها دول الخليج الأخرى مع عودة القوات التركية إلى الخليج بعد قرن من هزيمة البريطانيين للعثمانيين تبقى محل نظر. وبصرف النظر عن ذلك، فإن هناك أسبابا وجيهة لتوقع أن كلا من قطر وتركيا سوف تعمدان إلى تعميق التحالف الاستراتيجي بينهما في المستقبل في خضم الهياج الجيوسياسي الذي يجتاح المنطقة.
معهد الشرق الأوسط- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-