في وقت بدت فيه تركيا كأنها تسير نحو مفترق طرق خطير يهدد أمنها السياسي والاقتصادي وعمليتها الديمقراطية التي حققتها على مدى السنوات الماضية، جسدت التحالفات الخليجية التركية التي تطورت بشكل لافت مؤخراً حجم التعاون بين الحلفاء الأقوى على مستوى المنطقة.
وتصدرت قطر وقيادتها دول العالم في دعم الشرعية الديمقراطية في تركيا بمواجهة الانقلاب، إذ لم ينتظر الشيخ تميم بن حمد ووزارة خارجيته رجوح الكفة لمصلحة أي من طرفي الصراع؛ كما فعلت غالبية دول العالم، فبادر بالاتصال هاتفياً بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الساعات الأولى للأزمة، مهنئاً إياه بالتفاف الشعب التركي حول قيادة البلاد المنتخبة ديمقراطياً ضد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، كما أكد تضامن قطر مع تركيا في إجراءات الحفاظ على الأمن واستعادة البلاد من قبضة الانقلابيين.
وشهدت العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول، في وقت متأخر من مساء يوم الجمعة 15 يوليو/تموز، محاولة انقلابية فاشلة، نفذتها عناصر محدودة من الجيش، تتبع "منظمة الكيان الموازي" التي يقودها فتح الله غولن، حاولوا خلالها إغلاق الجسرين اللذين يربطان الشطرين الأوروبي والآسيوي من مدينة إسطنبول (غرب)، والسيطرة على مديرية الأمن فيها وبعض المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة.
في حين قوبلت المحاولة الانقلابية الفاشلة بإدانات دولية واحتجاجات شعبية عارمة في معظم المدن والولايات، إذ توجه المواطنون بحشود غفيرة تجاه مجلس النواب ورئاسة الأركان بالعاصمة، والمطار الدولي بمدينة إسطنبول، ومديريات الأمن في عدد من المدن؛ ما أجبر آليات عسكرية كانت تنتشر حولها على الانسحاب؛ ممّا ساهم بشكل كبير في إفشال المخطط الانقلابي.
ومنذ أن رسمت الدوحة ملامح مستقبل التحالفات الإقليمية مع أنقرة في وقت مبكر، أخذت العلاقات الاستراتيجية بين دول الخليج وتركيا تنمو بشكل مطرد، وذلك لمواجهة التحديات التي تتعرض لها المنطقة، وتطابق وجهات النظر في كثير من الملفات الإقليمية والدولية.
كما أعلنت الكويت والسعودية والإمارات والبحرين تضامنها مع حكومة أنقرة وإرادة الشعب التركي، والمحافظة على المكتسبات الدستورية بقيادة أردوغان، وحكومته المنتخبة، وفي إطار الشرعية الدستورية، وفق إرادة الشعب، معربة عن ترحيبها بانتهاء محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس وحكومته، وعودة الأمور إلى نصابها، مؤكدة أنها تابعت ما جرى بقلق بالغ.
وأكدت دول الخليج حرصها على أمن واستقرار وازدهار جمهورية تركيا الشقيقة، وأنها تدعم كل الإجراءات التي تتخذها أنقرة لتعزيز استقرارها وحماية مؤسساتها، والحفاظ على مكتسباتها ومواصلة جهود التنمية والرخاء للشعب التركيا.
وفي مشهد يعكس حجم التعاون والتنسيق، ألقت السلطات السعودية القبض على الملحق العسكري التركي في الكويت، ميكائيل غللو، على خلفية تورطه في محاولة الانقلاب الفاشلة، وذلك في مطار الملك فهد الدولي بمدينة الدمام، أثناء محاولته الفرار إلى أوروبا، قادماً من الكويت.
وأبدت حكومة الرياض، بحسب وسائل إعلام محلية، استعدادها لبدء الإجراءات القانونية لإعادته إلى تركيا، مشيرة إلى أن الانقلابيين كانوا يخططون لتعيين غللو مديراً عاماً لـ"مؤسسة الصناعات الكيميائية والميكانيكية"، التابع لوزارة الدفاع التركية.
وخلال مقابلة له على قناة "سي إن إن" الإخبارية، قال وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، الأحد 17 يوليو/تموز، إنه غير قلق على الإطلاق من حدوث فوضى في تركيا، وأنها ستتخطى محاولة الانقلاب التي شهدتها، وأن السلطات التركية ستتمكن من استعادة النظام والاستقرار، ولا يساوره شك في أن تركيا قادرة على تخطي هذه المرحلة.
وأكد الجبير عمق علاقة بلاده مع تركيا والتعاون واسع النطاق بالنسبة للأمن، ومكافحة الإرهاب، ودعم المعارضة السورية المعتدلة، والعلاقات التجارية واسعة النطاق، فضلاً عن التعاون السياسي القوي بين الرياض وأنقرة.
ولم تكن العلاقات الخليجية التركية وليدة اللحظة، بل أخذت تتطور إلى تحالفات عسكرية واقتصادية وتجارية عقب وفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وتولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في السعودية؛ الذي أبدى اهتماماً واسعاً بترابط وتجانس العلاقات مع تركيا في كل المستويات؛ وذلك لثقلها الإقليمي وتطابق الكثير من ملفات المنطقة بين دول المجلس وتركيا.
وفي ظل التفاعل الإيجابي المتنامي بين تركيا ودول الخليج وتجسيد ذلك في المناورات العسكرية المشتركة التي وصفت بالتاريخية والمشهودة كان آخرها تمرين "نسر الأناضول"، يرى مراقبون أن دول مجلس التعاون تسير نحو توطيد التعاون أكثر في المجالات كافة، لا سيما العسكرية وتعزيز القدرات الدفاعية وأنظمة الدفاع الجوي.
وخلال الأشهر الأخيرة، أعلنت عدد من عواصم الخليج، منها الرياض وأنقرة والدوحة والكويت والمنامة، توقيع عدد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والتجارية التي من شأنها تقوية مجال التصنيع العسكري والطاقة بقدرات ذاتية محلية، وتقليل الاعتماد على الحليف الأمريكي والغربي، في ظل تحولات عسكرية متسارعة قلبت خريطة التحالفات بالمنطقة، وجعلتها عرضة لأي تهديد محتمل.
ويهدف نقل التكنولوجيا العسكرية والصناعات الدفاعية التركية إلى داخل دول الخليج، إلى تحقيق استقلالية القرار السياسي والعسكري بالكامل عن الدول الكبرى، ووقف محاولات ابتزازها تحت غطاء الحماية الأمريكية المزعومة لأمن الخليج.
وعزز التعاون العسكري خلال الأشهر الأخيرة بين دول الخليج التي تسير نحو زيادة التعاون في شتى المجالات، انضمام أنقرة إلى التحالف الإسلامي العسكري بقيادة الرياض، ومشاركتها في مناورات رعد الشمال، التي شاركت فيها معظم دول التحالف، واعتبرت من كبرى المناورات العسكرية التي تشارك فيها الدول الإسلامية.
وفي مشهد مقارب لمناورات رعد الشمال، شاركت القوات الخاصة السعودية والقطرية في التدريب والمناورات العسكرية المشتركة في ولاية إزمير غربي تركيا، في منتصف شهر مايو/أيار الماضي، فضلاً عن عدد من الدول الكبرى منها الولايات المتحدة وأذربيجان وألمانيا وتركيا، التي شملت مشاركة قطع عسكرية بحرية ومجموعات برية وتدريبات لسلاح الجو، واختتمت بعرض عسكري، جسد تلاحم الأتراك مع العرب.
وما يعزز حرص دول التعاون الخليجي على بناء علاقة أمنية واستراتيجية مع أنقرة، هو أن تركيا أحد اللاعبين الأساسيين في مبادرة إسطنبول، ومن ثم فإنها توازي "بوابة للحوار السياسي" البالغ الأهمية مع دول المتوسط والاتحاد الأوروبي.
كما يمكن لدول الخليج الاستفادة من الوجود التركي في حلف الأطلسي لمواجهة التحديات المستقبلية التي قد تتعرض لها، في حين تعتبر تركيا تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع الخليج فرصة قوية لتعزيز دورها في المنطقة، في ظل تراجع وضعف النظم السياسية الرئيسية.
وانطلقت الشراكة التركية-الخليجية بشكل أوسع عبر توقيع مذكرة تفاهم، على هامش اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في دورته الـ108 عام 2008، حيث تشكّل المذكرة قفزة حقيقية بطبيعة العلاقة بين الجانبين، لا سيما أن واشنطن ترتبط بعلاقات قوية مع الطرفين، كما أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تحقيق تقارب أكثر مع الطرف الخليجي، وهو ما عبر عنه في مبادرة إسطنبول للتعاون (ICI).
ياسين السليمان - الخليج أونلاين-