لا خلاف على أن الشعب العربي كله وقف مع الشعب التركي في رفض الانقلاب وتأييد الحكومة الشرعية المنتخبة في تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، ولذلك لم يستطع أحد من المفسدين الوشاية بين الشعبين العربي والتركي بشكل عام؛ لأنه يدرك أن الشعب التركي أحس وعايش مواقف الشعب العربي في كل مكان داخل الوطن العربي، ودون استثناء دولة واحدة من دوله؛ بل وداخل تركيا وفي أوروبا وأمريكا وغيرها، وحتى بعض الآراء الإعلامية في بعض الفضائيات العربية التي استعجلت بإظهار الفرحة بوقوع الانقلاب تراجعت فوراً، وبدت أكثر موضوعية في نقل الأخبار من الساعات الأولى لفشل الانقلاب، وفي مقدمتها القنوات الخليجية تحديداً، التي كان بعضها ضحية أخبار كاذبة، كانت المصادر العسكرية الأمريكية هي التي زودت بها قناة "إن بي سي"، وفيها شائعة فرار أردوغان إلى ألمانيا ليلة محاولة الانقلاب، كما صرح بذلك "جوليان أسانج" مؤسس موقع ويكيلكس، مشيرا إلى أن الغرض من إثارة الشائعة كان لتقوية الانقلابيين، وقامت بعض الفضائيات بدورها بنشرها على وكالات الأنباء العالمية بما فيها الخليجية والمصرية واللبنانية وغيرها، وكانت تريد أن تبث الرعب في قلوب الشعب التركي، وتوحي بأن الانقلاب قد نجح، وأن عهد أردوغان قد انتهى في تركيا.
لقد كان نشر هذا الخبر وغيره من الأخبار الكاذبة جزءاً من الخطة الإعلامية الخادعة التي بثها الانقلابيون ومن شاركهم في أمريكا والغرب في خطة الانقلاب، وهذا ما لم يثبت على القنوات الفضائية الخليجية كلها؛ لأنها سرعان ما بدأت تأخذ الأخبار من داخل تركيا ومن مصادر تركية موثوقة، فثبت أن هذه الفضائيات العربية؛ سواء كانت إماراتية أو سعودية أو خليجية غير رسمية مثل "سكاي نيوز" أو "العربية" أو غيرهما، كانت بعد المفاجأة الأولى للانقلاب منصفة في نقل الأخبار الموثوقة من داخل تركيا، وقد كنت شخصياً من أكثر الإعلاميين الأتراك الذين تم استضافتهم على هذه القنوات، وفُتحت للإعلاميين الأتراك كل القنوات الخليجية، وجميعهم يبث أخبار فشل الانقلاب، والجهة الوحيدة التي تبحث عن مؤيدين للانقلابيين لإجراء لقاءات معهم هي وكالة أنباء أجنبية وليست عربية ولا خليجية، وهذا يؤكد أن القنوات العربية، والخليجية تحديداً، كانت موضوعية في الساعات الأولى، وأنها عالجت بعض أخطائها في ليلة الانقلاب نفسها، وأصبح الإعلاميون الأتراك هم مصدر معلوماتها الصحيحة فقط. وعليه، فلا فائدة من اتهام هذه القنوات الفضائية الخليجية بأنها كانت مشاركة للانقلابيين أو جزءاً من الخطة الانقلابية، فهذه الأقوال لا يقول بها إعلامي تركي منصف ومطّلع على حقائق الأمور وتفاصيلها ساعة بساعة في مواكبة الحدث.
لذا، يمكن القول بأن كل الأصوات المشبوهة التي تتهم القنوات الفضائية الخليجية بدعم الانقلاب تهدف إلى الوقيعة بين الشعب التركي والشعب العربي، أو تهدف إلى الوقيعة مع الشعب الإماراتي أو غيره، وهذا كله كذب فاضح ولا تقوم عليه أدلة إطلاقاً، بدليل أن المواقف الرسمية، العربية ومنها الخليجية، نددت بالانقلاب في الليلة الأولى له وبعدها. وبالتأكيد، فإن ذلك كان متوافقاً مع الموقف الشعبي العربي أولاً، ومتوافقاً مع وسائل الإعلام العربية التي وقفت إلى جانب الشعب التركي وحكومته الشرعية، فلم تصنع المواقف الرسمية شرخاً بين المواقف العربية الشعبية والإعلامية إطلاقاً؛ بل كانت منسجمة معها، وربما كان الفارق بين قادة دول الخليج أنهم اختلفوا في التوقيت فقط، فكانت دولة قطر ثم السعودية ثم الكويت والبحرين والإمارات وسلطنة عمان بعدها، ولم تعلن دولة عربية ولا خليجية واحدة وقوفها إلى جانب الانقلابيين إطلاقاً؛ بل تميزت ردود فعلها عن المواقف الأوروبية والأمريكية المريبة، وهذا يؤكد أن الإحساس الرسمي العربي والخليجي كان جزءاً من الموقف العربي العام في تأييد الشعب التركي؛ بل والذهاب أكثر في تأييد الدولة التركية بعدم إلغاء معظم السياح العرب رحلاتهم إلى تركيا؛ بل ومشاركتهم الشعب التركي احتفالاته بالنصر والدفاع عن الديمقراطية ورفع الأعلام التركية في الساحات العامة.
هذا الكلام نؤكده ونذكره؛ لأن هناك من يريد أن يصطاد في الماء العكر الذي يصطنعه هو. وإذا كانت دولة الإمارات أكثر الدول العربية والخليجية التي ينالها الاتهام، فإن ذلك مرده أن هناك من يريد أن تبقى العلاقات التركية - الإماراتية في حالة توتر، بعد أن أبدت الدولتان رغبة في التقارب والتصالح وتحسين العلاقات الثنائية بينهما في الأشهر الماضية، ولذلك فإن عدم وجود دليل على اتهام الإمارات يدفع الشعب التركي والحكومة التركية والإعلام التركي إلى أن يكون أكثر تقارباً مع الشعب الإماراتي الشقيق، الذي هو جزء من الشعب العربي الصديق للشعب التركي، ويدفع الإعلاميين الأتراك والإماراتيين إلى ألا يستمعوا إلى المغرضين والحاقدين، الذين يصرون على وضع دولة الإمارات الشقيقة في مصاف الدول المعادية لتركيا لأغراضهم الخاصة، بينما مصالح الشعبين عكس هذا الادعاء، فلا مصلحة للإمارات ولا لتركيا في معاداة بعضهما بعضاً لعدم وجود أسباب مقنعة للعداء ولا مستلزمة له؛ بل أواصر الأخوة بين الشعبين والحكومتين أقوى من ذلك بكثير، والمصالح المشتركة بينهما تخدم كلا الشعبين الشقيقين.
وإزاء ذلك، فإن المواطنين الإماراتيين والأتراك مطالَبون الآن ،وأكثر من أي وقت مضى، برد هذه الاتهامات الكاذبة، وتبادل الزيارات لبعضهما بعضاً، أكثر من أي وقت مضى أيضاً، وأن يتميز استقبال المواطن الإماراتي في تركيا بمزيد من الترحاب والمحبة، وكذلك التركي في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وهذا ينبغي أن يتم مع كل دولة عربية يحاول بعض الموتورين إفساد العلاقة بينها وبين تركيا؛ بل لا بد من تأكيد أن اختلاف وجهات النظر السياسية بين الحكومتين أمر طبيعي بين الدول، ولا ينبغي أن يؤثر على العلاقات الشعبية والسياحية والتجارية وغيرها، مع ضرورة مواصلة السعي بين سياسيي الدولتين المباحثات الثنائية لتجاوز العقبات، وإزالة اختلاف وجهات النظر ما أمكن، وذلك بعرض كل طرف للطرف الآخر عما لا يرضيه في مواقف الدولة الأخرى، وكيف يمكن حل مثل هذه الاختلافات بالعلاقات الأخوية بين الدولتين.
إن الشعب التركي يثمّن عالياً المواقف الشعبية والإعلامية والرسمية العربية والخليجية والإماراتية من محاولة الانقلاب الفاشلة، ويتفهم الجزء الصغير والمريب منها، بأنه تم خداعه بالحملة الدعائية الأمريكية الكاذبة التي انطلقت مع حركة الانقلابيين، وإصلاح الإعلام العربي والخليجي موقفه بسرعة دليل راجح على أن المواقف الإعلامية والرسمية العربية، وإن تأخرت بعض الشيء إلا أنها كانت مع الشعب التركي، وكانت مع الشرعية الديمقراطية، وأنها أكثر تفهماً لخطر الانقلابيين من جماعة فتح الله غولن؛ لأن المفكرين والمثقفين العرب أكثر وعياً لرفض أفكاره مثل ادعاء عصمته العملية وإن لم يقلها علناً، فالشعب العربي يرفض التفكير الغنوصي الباطني داخل الفكر الإسلامي، ويرفض مبدأ التقية، ويرفض الغدر والخداع في العمل السياسي الذي يستغل التدين، فكل ذلك يجعل الموقف العربي من أكثر المواقف العالمية في تأييد الشعب التركي وحكومته الشرعية.
لقد أحس الشعب التركي بحرص الشعب العربي والخليجي على الوقوف إلى جانبه بعد تعرضه لأكبر صدمة في تاريخه الحديث، فالانقلاب الفاشل لم يكن حدثاً سهلاً، ومن مكاسبه أن الشعب التركي عرف أكثر من هم أعداؤه وأصدقاؤه، ففي الوقت الذي وقفت فيه الدول والشعوب الأوروبية صامتة وربما شامتة بما جرى في تركيا، وامتنعت الشعوب الأوروبية عن السفر إلى تركيا، وفي إحدى الدول الأوروبية رُفعت لافتة في مطارها مكتوب عليها: "إن السفر إلى تركيا هو دعم لأردوغان"، وهذا كان بعد الانقلاب مباشرة، وفي ذلك تعبير عن كراهية عنصرية يمينية بغيضة نحو تركيا، بينما كانت مواقف الشعب العربي زيادة كبيرة في عدد الزوار العرب إلى تركيا بعد الانقلاب، ولم يتم إلغاء الرحلات السياحية المبرمجة سابقاً من الدول العربية؛ بل زاد عددها، وقد شارك بعض السياح العرب في مظاهرات تأييد الشرعية التي شهدتها الميادين التركية بعد الانقلاب، وذلك لتأكيد وحدة المشاعر الخليجية - التركية؛ بل ويمكن تعميمها على كل الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب المصري، وهذا مبعث رغبة الحكومة التركية في إصلاح علاقاتها مع مصر، فمصر هي من الدول العربية الكبرى، ولا يمكن تجاهل إصلاح العلاقات معها، تلبية لرغبة الشعوب ولتقوية العلاقات التشاركية معها.
محمد زاهد جول - خاص للخليج أونلاين-