دار جدل وصراع، وأخذ وردّ، بين مختلف فئات المجتمع في الأيام الماضية، لتأكيد استحقاق الجنة والنار للسعوديين الذين توفوا في حادثة الإرهاب الأخيرة في إسطنبول، ووصل إلى الحد الذي شكل هجوما كبيرا وإدانة للضحايا، كونهم وجِدوا في المكان وقت الحادثة، مؤكدا بعضهم أن من توفوا مصيرهم النار لا محالة!
إن أزمة التصنيف وإصدار الأحكام وتأكيدها، هي من التناقضات التي يعانيها كثيرون، والذي يكاد يكون السواد الأعظم من المجتمع، وهي غيض من فيض تعبر عن أزمة الفرادة التي يعتقدها البعض، منطلقا من أنه يجب تقسيم البشر على أساس الكفر والإسلام، وبالتالي إصدار الأحكام بمن هم في الجنة أو النار، وهي حرب شرسة تحدث في الوعي المجتمعي، وتعبرعن الذات المأزومة بالتصنيف، وبفكرة أن المخالف -حتى ولو في الطائفة من الديانة ذاتها- هو مصدر الشر المطلق ومصيره النار.
من الواضح أن تفاصيل كثيرة ومزدحمة تحدث بقوة في عقل المسلم المؤمن بالتفوق النوعي والإلهي، على عكس المسلم المعتدل المتسامح، حيث يحيا ضمن إطار ثنائية الأنا والآخر، كما أن علاقته مع الموت والحياة قائمة على معتقد هذه الثنائية، وكان لنا في حادثة تفجير إسطنبول خير مثال.
إن استقراء الأحداث الأخيرة، وردود فعل الشارع تجاهها، يعكس هذا النمط التصنيفي، حيث تصدر الجميع لإصدار الأحكام، فأحدهم يصدر حكما مفاده: "أنت في الجنة لأن مفهوم الجنة مرتبط بمكان وجنسية وحالة، وأنت في النار لأنك مرتبط بمكان وجنسية وحالة مغايرة له".
هذا يعني أنه ما تزال العلاقة بين واردي النار وواردي الجنة تقوم على المعطيات الخارجية والظرف الخارجي ليس أكثر. مما يطرح التساؤل: هل التعصب مرتبط بالهوية الدينية؟
بالتأكيد، هو مرتبط بالتصور السطحي للأحداث وللهويات، وإلا لما كان القاتل يفجر الأبرياء غدرا، ولما كان مبرّرو القتل يبررونه من منطلق ديني، بمعنى أن ارتباطه بفكرة الهوية الدينية قائم، وهي الفكرة التي وصفها برنارد لويس بـ"الهياج الإسلامي"، مؤكدا أن الدافع لهذا الهياج مرجعه فكرة واعتقاد الاختلاف، أي اختلاف الآخر عن هويتي، أنا الأفضل وهو الأسوأ، إن لم يكن مثلي فهو في الظلام، ومصيره النار.
إن دراسة التعصب -كمعتقد- لم تقدم لنا شيئا يذكر حتى اليوم بحيث توقفه، ما زال القاتل يرى أن مبرره منطقي، وما زال المتعصب يرى أنه على حق والآخر المختلف على ضلال.
وتكمن الحسنة الوحيدة للدراسات التي تناولت مفهوم التعصب، أنها طرحت حقيقة مهمة، وهي أن التعصب -بمعنى تصنيف الآخر من منطلق عقدي- مرتبط ارتباطا كبيرا بالأفكار النمطية، والعلاقة بين التعصب وهذه الأفكار هي محصلة تجارب وخبرات وتفاعلات اجتماعية، تزوده بها عملية التنشئة الاجتماعية والتعليمية والثقافية.
إن هذا المأزق وهذه الصراعات والتناقضات ليست التهديد الوحيد لمزيد من الإرهاب والإقصاء، بل المأزق أن ثمة كثيرا منهم –من هذا النموذج– يتبنون بنرجسية عالية تصنيف الآخرين، والتنبؤ المسبق بمصائرهم، وتقسيم المصير إلى جنة ونار.
سالمة الموشي- الوطن السعودية-