كشف تسلسل الأحداث وتطور الموقف التركي من الأزمة الخليجية منذ انطلاقها وحتى حسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اصطفافه إلى جانب قطر، أن أنقرة كانت تعلم وتعي منذ البداية التبعات المتوقعة لهذا «القرار الاستراتيجي» على مستقبل علاقاتها مع المحور الآخر لا سيما دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
فحسب ما أكدت مصادر تركية مقربة من الحكومة فإن دوائر صنع القرار التركي اتفقت على ضرورة تجنب أي تصريح أو تصرف يمكن أن يوحي بالاصطفاف مع أحد الأطراف، وتطبيقاً لذلك اقتصرت تصريحات كبار المسؤولين في ذلك الوقت على الدعوات إلى التهدئة وعرض التوسط والمساعدة في حل الخلافات «عبر الحوار».
لكن وفي اليوم الثاني ومع الانتقادات التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي والاتهامات للحكومة التركية بـ«عدم الوقوف إلى جانب قطر»، أو «التخلي عنها في الأزمة»، صدر تعميم إلى جميع وسائل الإعلام التركية المقربة من الحكومة والرئاسة وحزب العدالة والتنمية الحاكم بضرورة إظهار التعاطف والدعم لقطر «لكن دون الإساءة إلى السعودية».
لكن هذا الموقف المتردد لم يدم طويلاً، وتشير المعطيات إلى أنه كان محاولة من قبل صناع القرار التركي لكسب الوقت ومحاولة فهم أبعاد ما يحدث، كون الأزمة كانت غامضة في البداية ولم يكن من السهل فهم أطرافها وتحالفاتها والأسباب الحقيقية لانطلاقها والأهم صعوبة وضع تصورات حول مستقبلها.
لكن هذه التصورات تبلورت على ما يبدو عقب سلسلة اتصالات دبلوماسية واسعة قادها أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو مع عشرات الرؤساء ورؤساء الوزراء حول العالم، وتفهم أنقرة أن «هناك لعبة غامضة لم تتكشف جميع جوانبها بعد»، حسب ما صرح أردوغان الذي أعطى أول إشارات وقوف بلاده إلى جانب قطر ورفضها الإجراءات «الخاطئة» بحقها وتأكيده عزم أنقرة تطوير علاقاتها بشكل أكبر مع الدوحة خلال الفترة المقبلة.
بالتزامن مع ذلك، رأى مراقبون أن أنقرة تيقنت بعد المهلة التي منحتها لنفسها لفهم ما يحدث أنها الهدف المقبل بعد قطر وأن الأمر يتعلق برسم خريطة للشرق الأوسط ويتعدى فكرة الخلاف الخليجي فقط، وسريعاً طلب حزب العدالة والتنمية الحاكم من البرلمان ضرورة تقديم بحث وتصديق الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع قطر، وخلال ساعات جرت مناقشتها والتصديق عليها، في خطوة تحمل أبعادا سياسية وعسكرية متقدمة.
والخميس، صادق أردوغان، على قراري البرلمان اللذين يجيز أحدهما نشر قوات مسلحة تركية في الأراضي القطرية، والثاني ينص على تطبيق التعاون بين أنقرة والدوحة حول تعليم وتدريب القوات الأمنية بين البلدين، لتصبح بذلك هذه الاتفاقيات سارية المفعول وتمهد لإرسال قرابة ثلاثة آلاف جندي تركي إلى القاعدة التركية في قطر.
ولم يقتصر الدعم التركي لقطر على المستوى الرسمي، وكان لافتاً على المستوى الشعبي، حيث تتصدر منذ أيام وسوم التضامن والوقوف إلى جانب قطر على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها وسم «قطر ليست وحدها»، فيما نظمت مظاهرة كبيرة في إسطنبول دعماً للدوحة، ووصل الأمر إلى تدشين حملة على تويتر بعنوان «لن نذهب إلى الحج هذا العام»، تعبيراً عن الغضب الشعبي من الموقف السعودي.
هذه التطورات أثارت غضب السعودية بشكل لافت، وإن لم يصدر عن الرياض أي موقف سياسي مباشر رداً على القرارات التركية بعد، إلا أن الصحافة السعودية ومواقع التواصل الاجتماعي كشفت سخطاً كبيراً على مواقف أنقرة وأعطت مؤشراً على مستقبل العلاقات بين البلدين خلال المرحلة المقبلة.
هذه العلاقات التي كان البلدان يتغنيان بها حتى قبيل ساعات من اندلاع الأزمة، حيث أكد سفير السعودية في أنقرة وليد الخريجي في كلمة له عقب إفطار أقامه لشخصيات تركية أن العلاقات بين البلدين وصلت مؤخراً إلى درجات متميزة، مشيراً إلى تطور التعاون في جميع المجالات.
ولفت إلى مجلس التنسيق السعودي التركي الذي قال إنه يتلقى التوجيهات من أعلى قيادة في البلدين، ويشمل قطاعات ومجالات تعاون عديدة سياسية واقتصادية وتجارية وعسكرية وأمنية وثقافية وإعلامية، وقال: «البلدان تجمعهما العديد من المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة. كما قطعنا شوطا جيدا في مشروع الاتفاقيات ومذكرات التفاهم خاصة في المجال الاقتصادي، فهناك اتفاقية التعاون التجاري، والتعاون الفني والاقتصادي، وتبادل الإعفاء الضريبي، واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات، وغيرها».
مجلس التنسيق السعودي التركي وإن كان أبرز ما توصلت له البلدان وكانت أنقرة تهدف من خلاله للوصول إلى التوقيع على اتفاقية «التعاون الاســـتـــراتيجي» مثل ما وقــعـــته مع قطر، إلا أنه لم يتم تفعــيله كما تمنت تركيا وضل شكلياً إلى درجة كبيرة، ومحاطاً بالهواجس السعودية التي لم تختف يوماً من مواقف أنقرة الداعمة لحركة الإخوان المسلمين وحماس وتعاونها المتنامي مع إيران في سوريا.
وبعد أن جرمت المملكة ومحورها الخليجي ـ المصري، قطر بناء على هذه «التهم»، يتوقع أن ينسحب ذلك على تركيا التي تتشارك مع الدوحة المواقف السياسية تجاه الحركات الإسلامية، الأمر الذي يعني العودة إلى مربع الصدام بعد سنوات من محاولة بناء علاقات على قاعدة «تحييد الخلافات».
وفي ظل المؤشرات على تمكن قطر من تجاوز الصدمة الأولى واستبعاد الخيارات الأسوأ في الأزمة تبدو تركيا في وارد تقديم مزيد من الدعم السياسي وغيره للدوحة والاصطفاف الكامل إلى جانبها بالتعاون مع إيران وهو ما سيكلفها خسارة علاقاتها التي عملت على مدار سنوات وبجهد كبير من أجل تطويرها مع السعودية بالدرجة الأولى والإمارات والبحرين أيضاً.
اقتصادياً، سيكون الأمر مكلفاً أكثر لتركيا وسط الحملات التي بدأت فعلياً تنادي بوقف السياحة السعودية وقطع العلاقات الاقتصادية معها، لاسيما أن آخر التقارير الاقتصادية قالت إن السعوديين هم الأكثر إنفاقاً بين السياح القادمين إلى تركيا وأنهم من بين أعلى المشترين للعقارات فيها.
كما سيؤثر تراجع العلاقات على سلسلة من المشاريع التي تم البدء بالعمل فيها على صعيد التعاون في مجال الصـــناعات الدفاعية والحربية ومصانع جرى التوافق على إقامـتـــها في تــركيــا والسعودية، يضاف إلى ذلك تراجع حاد متوقع في الاستثمارات السعودية في تركيا، وعمل الشركات السعودية في المملكة التي زاد نشاطها بشكل كبير جداً خلال الأشهر الأخيرة.
وحسب بيانات رسمية، ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 8 مليارات دولار، وفي تركيا توجد 800 شركة سعودية عاملة، مقابل قرابة 200 شركة تركية في المملكة، بحجم أعمال إجمالي يبلغ 17 مليار دولار أمريكي، ورأسمال يتجاوز 600 مليون دولار.
كما ارتفع عدد السياح السعوديين لتركيا خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير حتى وصل متوسط عددهم في أعوام 2014 و2015 و2016 إلى 250 ألف سائح في العام، حيث ستتأثر رحلات الطيران بين أنقرة وجدة والمدينة والتي تم تدشينها خصيصاً لخدمة السياح السعوديين.
إسماعيل جمال- القدس العربي-