د. بشير موسى- العربي الجديد-
خلال الأيام الأولى من الحملة السعودية ـ الإماراتية الإعلامية على قطر، لم تأخذ أنقرة الأزمة الخليجية مأخذ الجد، وحسب المسؤولون الأتراك أن المسألة لا تتعدى سوء فهم ما بين السعودية والإمارات، من جهة، وقطر، من جهة أخرى. ولكن، وما إن أدركت أنقرة أن الأمور تتعدى قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية، حتى تحركت لمحاولة احتواء الوضع وأية احتمالات لتفاقم الخلاف.
ترتبط تركيا بعلاقات وثيقة مع كل من قطر والسعودية، وبالنظر إلى التعاون الإقليمي المتزايد بين أنقرة وعواصم دول الخليج، لم يكن من المصلحة التركية، بأي حال من الأحوال، أن يحدث شيء من الانقسام الخليجي.
وهذا ما دفع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لإرسال اثنين من مساعديه، معروفين بعلاقاتهم الشخصية مع كبار المسؤولين في السعودية وقطر، لاستطلاع الوضع وبذل جهود وساطة أولية. ولكن، وما إن عاد الموفدان لعرض نتائج جولتهما على الرئيس، حتى فوجئ إردوغان بإعلان السعودية والإمارات والبحرين قرارات مقاطعة قطر وحصارها. مثلت خطوة المقاطعة والحصار، من جهة، عدم اكتراث صريح بالوساطة التركية، وأطلقت نذر خطر في العاصمة أنقرة.
لم تعد هذه، في تصور تركيا للأمور، مجرد أزمة عابرة، أوحالة أخرى من حالات الخلافات العربية ـ العربية المتكررة وغير منطقية الأسباب. وبدا كأن قطر يمكن أن تتعرض لما هوأكثر فداحة من المقاطعة والحصار، وأن من بادر إلى تفجير هكذا أزمة، بكل ما تحمله من عواقب، لا يجب أن يستبعد منه اتخاذ قرار أبعد أثراً.
وهذا ما دفع إردوغان إلى مطالبة الحكومة بتقديم مشروع قرار إقامة القاعدة العسكرية التركية في قطر للنقاش في البرلمان، على أن يتم التصويت عليه في اليوم نفسه. كان الاتفاق حول تمركز قوات تركية، برية وجوية، في قطر وقع في 2014؛ وقد تواجدت وحدات تركية بالفعل في الموقع المخصص لها في قطر. ولكن العمل على إقامة البنية التحتية الضرورية لاستقبال آلاف من الجنود وأعداد من الطائرات، بما في ذلك معدات عسكرية ثقيلة ومعقدة، لم يكن قد بدأ. كما أن الاتفاق لم يكن عرض على البرلمان التركي بعد.
ولذا، فلابد أن يعتبر طلب الرئيس مناقشة الاتفاق والتصديق عليه من البرلمان، ومن ثم بدء وصول أفواج القوات التركية، بمعداتها، إلى قطر، قد قصد به رسالة واضحة: أن أنقرة لا ترى أن هناك مسوغات مقنعة للحملة ضد قطر ولإجراءات المقاطعة والحصار التي فرضت عليها، وأن تركيا لن تترك قطر وحدها لمواجهة أية مخاطر محتملة أخرى. بمعنى، أن تركيا لم تعلن التزامها باتفاق 2014 وحسب، بل وبدأت خطوات فعلية ومتسارعة لتوكيد هذا الالتزام.
في الوقت نفسه، قررت أنقرة بذل كل جهد ممكن لمساعدة قطر على مواجهة إجراءات المقاطعة والحصار. لم يكن الاقتصاد القطري بحاجة ملحة لدول الحصار الخليجية الثلاث، ولكن إغلاق المعبر البري لقطر هدد بإحداث نقص في السلع الاستهلاكية.
ورغم أن الدوحة وضعت، منذ 2014، خططاً للتعامل مع حصار محتمل، كانت ثمة حاجة لإمدادات من السلع الغذائية، ليس لسد نقص محتمل وحسب، ولكن أيضاً لاحتواء نوازع القلق لدى عموم المواطنين والمقيمين في البلاد. وقد سارعت تركيا، في حملة إمدادات غذائية جوية لم يعرفها العالم منذ حصار برلين، لتوفير متطلبات السوق القطري الاستهلاكية، مباشرة بعد إعلان إجراءات الحصار فجر 5 يونيو/ حزيران.
ولم يكن غريباً بالتالي أن يثير الموقف التركي من الأزمة بعضاً من الجدل، داخل تركيا وخارجها. بعد شهور من التوتر في العلاقات التركية ـ الأوروبية، الذي واكب الحملة الانتخابية للاستفتاء على التعديلات الدستورية، عادت السياسة التركية الخارجية للهدوء النسبي. إقليمياً، ساعد التقارب بين أنقرة وروسيا على إحراز بعض التقدم في تهدئة الوضع السوري.
الخلاف بين أنقرة وواشنطن حول الدعم الأمريكي للحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، يسير باتجاه توكيد أنقرة على التعامل الصارم مع أية محاولة لإقامة كيان كردي سوري، معاد لتركيا، وتفهم واشنطن للموقف التركي. ورغم استمرار الصراع على سوريا، تراجعت مشاهد التدمير وسفك الدماء بصورة ملموسة. كما انطلق تعاون عربي ـ تركي استعداداً لما بعد داعش، ومحاولة إصلاح بنية السياسة والحكم المختلة في العراق.
في الخليج، بصورة خاصة، وبالرغم من اختلاف وجهات النظر التركية ـ السعودية حول عدد من المسائل، نجحت قيادات البلدين في وضع أسس تحالف استراتيجي. كما أن الشكوك التركية المتراكمة حول النشاطات الإماراتية، لم تمنع تطبيع العلاقات بين أبوظبي وأنقرة. وكذلك هي علاقات أنقرة مع البحرين والكويت، التي شهدت تقدماً ملموساً خلال الشهور التي تلت محاولة الانقلاب التركية في الصيف الماضي.
أما العلاقات التركية ـ القطرية، التي بدأت في النمومنذ 2007، فالواضح أنها ترتكز إلى أسس راسخة وصلات وثيقة على أعلى مستويات الحكم. وهذا، ربما، ما جعل الموقف التركي من الأزمة الخليجية تطوراً مفاجئاً، ومدعاة لبعض التساؤل.
الحقيقة، أن إردوغان لم يواجه معارضة ملموسة لقرار المشاركة في حماية قطر من المخاطر التي حسب أنها تهددها. حتى الأوساط الليبرالية، التي عارضت التعديلات الدستورية وأبدت قلقاً ملموساً تجاه توتر العلاقات مع أوروبا، لم تستطع تقبل إجراءات دول القطيعة والحصار ضد قطر، ولا مطالب إغلاق «قناة الجزيرة»، التي نظر إليها دائماً باعتبارها قلعة لحرية الرأي والتعبير في منطقة مثقلة بمناخ القمع والاستبداد وامتهان الكرامة الإنسانية.
يوم الجمعة، 9 يونيو/ حزيران، التالي لقرارات القطيعة والحصار، فوجئ الرئيس التركي بعد انتهاء صلاة الجمعة بالمصلين يطالبونه بالتحرك لحماية قطر. لم يكن إردوغان أدرك بعد حجم اهتمام الرأي العام التركي بالأزمة الخليجية، ولكن الأصوات التي حثته على التحرك تركته اكثر اطمئناناً إلى أن موقفه من الأزمة لا يصطدم مع حس العدل والإنصاف لدى عموم أبناء شعبه.
وحدها الدوائر الكمالية الأرثوذكسية الصغيرة، التي لم تزل تعتقد ضرورة تجنب التورط في أية أزمات إقليمية أودولية، بغض النظر عن تأثيرها على مصالح تركيا وأمنها، طالبت بالابتعاد الكلي عن أزمة الخليج.
ردود الفعل الأعلى صوتاً، جاءت من دول الحصار ذاتها، سيما الإمارات العربية المتحدة. لم تر أوساط دول الحصار أن اتفاق التمركز العسكري التركي في قطر وقع منذ 2014، وأن جنوداً أتراكاً تواجدوا في قطر منذ ما قبل اندلاع الأزمة، وأن الخطوات التركية لم يقصد بها سوى تفعيل الاتفاق. والمدهش، بالرغم من أن السعودية، ودول الخليج الأخرى، أبلغت مسبقاً بالاتفاق القطري التركي في 2014، ولم تعترض عليه، أن دول الحصار وضعت إغلاق القاعدة العسكرية التركية ضمن مطالبها الثلاثة عشر من قطر.
المشكلة هنا، بالطبع، لم تكن انحياز تركيا لقطر، لأن الموقف الذي تبنته أنقرة من البداية كان دعوة الأطراف المختلفة إلى التفاوض لحل الأزمة، وبذل جهود توسط حثيثة وسريعة، معلنة وغير معلنة. ولم تتخذ أنقرة خطوات التوكيد على التزاماتها تجاه قطر، إلا بعد أن استشعرت وجود مخاطر تتعدى إجراءات القطيعة والحصار.
المشكلة، من وجهة نظر دول الحصار، أن التحرك التركي جعل خطط الذهاب إلى ما هوأبعد من القطيعة والحصار غير ممكنة التحقق.
بغير ذلك، فربما بات من الضروي أن تعتاد دول الإقليم مع تصور الجمهورية التركية الجديدة لذاتها، وحقها في التدخل، خارج حدودها، لحماية مصالحها وحلفائها.
هذه قوة إقليمية تتصرف، اليوم، على أساس أنها قوة إقليمية.