خليل العناني - العربي الجديد-
لا تغيّر الرواية السعودية بشأن مقتل الكاتب الصحفي، "جمال خاشقجي"، والتي تدّعي أنه توفي خلال شجار مع بعض المحققين السعوديين، شيئاً من واقع الأمر، فالرجل مات في قنصلية بلاده، وعلى أيدي "فرقة اغتيالات" تم إرسالها خصيصاً لهذا الغرض، وما دون ذلك مجرد تفاصيل.
السعودية التي اعترفت، بعد إنكار صريح دام أسبوعين، بوقوع الجريمة داخل القنصلية، تكافح الآن للخروج بروايةٍ متماسكةٍ ومقنعة، تحفظ ماء وجهها، لكنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، فالرواية الرسمية بحاجة إلى رواية أخرى من أجل تبريرها والتغطية عليها.
الرواية الرسمية السعودية، في نسختها الأولى الصادرة عن النائب العام، مليئة بالفجوات والثقوب التي لا يمكن لعاقلٍ تصديقها، وهي روايةٌ تثبت مدى الورطة التي وقعت فيها الرياض أو بالأحرى أوقعها فيها غباء من أمر وخطط ونفذ عملية التخلص من خاشقجي بهذه الطريقة البشعة.
ولا أدل على هذه الورطة من ظهور نسخ مختلفة لهذه الرواية، من أجل إحكامها وجعلها أكثر إقناعاً، على غرار ما نشرته وكالة رويترز للأخبار على لسان ما تسميه مصدراً مسؤولاً، وهو ما لم يحدث أيضاً.
الرواية الحقيقية لمقتل خاشقجي أن السعودية، ممثلة بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ومن يعمل لصالحه، قرّرت إسكات خاشقجي، وإسكات كل صوت مختلف أو معارض، اختطافاً أو اعتقالاً أو قتلاً أو تقطيعاً.
وهي الرواية التي بدأت فصولها قبل عامين ونصف العام، حين قفز الملك سلمان بن عبد العزيز إلى السلطة، ونصّب ابنه محمد بن سلمان ولياً لولي العهد السابق محمد بن نايف. ثم بدأت فصول الرواية الأكثر تأثيراً وإثارة في تاريخ المملكة العجوز منذ تأسيسها الثالث بالقرن الماضي.
بدأ الفصل الثاني من الرواية الحقيقية مع استيلاء محمد بن سلمان على السلطة الفعلية في البلاد بعد انقلابه على بن نايف، وترقية نفسه إلى ولاية العهد في منتصف العام الماضي.
وهو فصل مليء بالتآمر والإثارة، شارك في كتابته الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصهره جاريد كوشنير، اللذان قالا صراحة إنهم "أوصلوا رجلهم إلى السلطة" في السعودية، تمهيداً لركوبه سياسياً من أجل تحقيق مصالحهم في المنطقة.
وبدعم غير محدود من حليفيه وشريكيه غير المباشرين في الجريمة، إسرائيل والإمارات، بدأ الفصل الثالث من الرواية الحقيقية لما يحدث في السعودية، وذلك من خلال تبنّي الشاب المراهق، بن سلمان، وترويجه خارجياً باعتباره "المنقذ" للمملكة من الضلال الديني، ومن التخلّف الاجتماعي، ومن الانغلاق الاقتصادي.
وهو ترويج استخدمت فيه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من شراءٍ للذمم والنفوس، ومن ترويع وترهيب لمن يختلف معه، بحيث بات بن سلمان كأنه "المهدي المنتظر" الذي كان الغرب يبحث عنه من أجل إعادة تشكيل المملكة.
ووصلت الرواية السعودية الحقيقية إلى مرحلة الدراما من خلال القرارات والسياسات العبثية التي مارسها محمد بن سلمان، سواء باعتقال مئات من رجال الدين والناشطين والخبراء الاقتصاديين والناشطات في مجال حقوق الإنسان والحريات.
أو بقرار مقاطعة قطر وحصارها منذ قرابة عام ونصف العام، وباحتجاز رئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، أو بمقاطعة كندا لمجرد تصريح ينتقد ملف حقوق الإنسان سيئ السمعة في السعودية، والتعاطي مع الطلاب السعوديين في كندا باعتبارهم مجرّد قطيع يؤمر فيُطيع.
وبقراراته الاقتصادية غير المدروسة، وبتبنّيه خطاب إسرائيل فيما يخص القضية الفلسطينية، ولومه الفلسطينيين على عدم التوصل إلى تسوية للقضية. ووصلت الرواية إلى ذروتها مع فصل "اغتيال خاشقجي"، وهو الفصل الأكثر تشويقاً في الرواية الحقيقية لما يحدث في السعودية.
هذه الرواية يكتب فصولها الآن مجموعة من المراهقين الذين استولوا على السلطة في السعودية منذ رحيل الملك "عبدالله"، سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين أو صحفيين أو كتّاب ومثقفين، جميعهم مشاركون ومتورّطون، بدرجاتٍ متفاوتة، في جريمة اغتيال خاشقجي، وفي كل جرائم السعودية التي حدثت خلال العامين ونصف الأخيرين.
وهم الذين حوّلوا السعودية إلى معمل تجارب لأفكارهم، ومنصة لتصفية خصومهم محلياً وإقليمياً ودولياً. بدءاً من أحمد عسيري وسعود القحطاني ومن يعمل تحت إمرتهما، مروراً بكتائب "التزييف الإعلامي" في القنوات الفضائية والصحف والمجلات ومراكز الأبحاث التي تعمل لصالح بن سلمان.
وهم معروفون بالاسم والوظيفة، ونهايةً بجيش الاغتيال المعنوي من الذباب الإلكتروني الذي فضحته صحيفة "نيويورك تايمز" قبل يومين.
لذلك، من أراد أن يعرف الرواية السعودية الحقيقية فليبدأ من فصولها الأولى، وليس من "فصل خاشقجي" الأكثر دراما وكآبة.