متابعات-
طرأت في السنة الأخيرة تطورات مهمة في العلاقات بين تركيا ودول عربية مركزية، بعد أن كانت متوترة على مدى نحو عقد من السنين، وأبرز هذه العلاقات تحسين العلاقات مع الإمارات والسعودية. وبينما نبعت التفافة حدوة الحصان التركية مع أبو ظبي والرياض من اعتبارات اقتصادية على وجه الخصوص، فإن لها أيضاً معاني جغرافية – استراتيجية. يسهم تحسين العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي والرياض في احتمال صمود التقارب الذي كان مؤخراً بين إسرائيل وتركيا، وذلك لأنه يجعل موقف أنقرة أكثر اعتدالاً في المسائل الإقليمية، المهمة لإسرائيل.
استضافت أنقرة في تشرين الثاني 2021 الحاكم الفعلي للإمارات، الشيخ محمد بن زايد، ووصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شباط 2022 لزيارة الإمارات. وكان التقارب بين أبو ظبي وأنقرة انعطافاً حاداً على نحو خاص؛ كون أردوغان اتهم الإمارات بوقوفها خلف محاولة الانقلاب ضده في 2016. في زيارة بن زايد إلى تركيا، جلب في جعبته التزاماً باستثمار 10 مليارات دولار في تركيا. في كانون الثاني 2022 اتفق على صفقة تبادل بين الدولتين بحجم 5 مليارات دولار. وفي زيارة المجاملة التي قام بها أردوغان إلى أبو ظبي، وقعت سلسلة اتفاقات بين الدولتين تضم مجالات الاستعداد للتصدي لكوارث جماعية، وتغييرات مناخية، وتعاوناً أولياً في مجال الصناعات الأمنية.
إضافة إلى ذلك، وفي قرار استثنائي، في نيسان 2022 قررت السلطات القضائية في تركيا تجميد الإجراءات القانونية على مقتل الصحافي جمال خاشقجي ونقل إدارة المحاكمة إلى السعودية. وجاء هذا القرار بعد حوار بين أنقرة والرياض استمر نحو سنة، وكخطوة استعداد قبيل زيارة أردوغان إلى السعودية التي تأجلت مرات عدة.
وكانت تركيا هي التي بدأت جس النبض مع الرياض وأبو ظبي كجزء من الجهد لتحسين العلاقات مع إسرائيل ومصر أيضاً. يبدو أن الدافع المركزي لمحاولات أنقرة التقرب من الدول في المنطقة يرتبط بحاجتها لتحسين وضعها الاقتصادي، كما تأتي على خلفية تغيير الإدارة في الولايات المتحدة، واتفاق المصالحة في الخليج بين قطر وجيرانها، مما يسمح عملياً بمرونة أكبر في السياسة بين الأطراف. من ناحية تركيا، فإن تضييق أبو ظبي على رجل المافيا التركي سادات بكر، الذي اختبأ في أراضيها وبث أفلاماً أحرجت الحكم في أنقرة، كانت حرجة لتغيير السياسة. وثمة دليل آخر على التغيير في العلاقات بين الطرفين، وهو تنسيق المواقف في ما يجري في اليمن: هجمات الحوثيين ضد الإمارات والسعودية في كانون الثاني 2022 أدت بوزارة الخارجية التركية إلى شجبها، بل وبوصفها لأول مرة بأنها “أعمال إرهاب”.
خلفية التوتر
ترى دول الخليج، باستثناء قطر، في تركيا بقيادة أردوغان عامل ضعضعة للاستقرار، وأنها ذات تطلعات عثمانية جديدة تدعم حركات الإسلام السياسي في المنطقة. وعلى خلفية آثار الهزة الإقليمية، تعاظم الخوف من تركيا في ضوء دعمها للأحزاب المرتبطة بالإخوان المسلمين، وتحديداً في مصر وتجاه حماس. سياسة تركيا هذه تشكل تهديداً عليها ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل وأساساً في ساحتها الداخلية.
في بداية العقد السابق، كانت هناك محاولة لتحسين العلاقات بين تركيا ودول الخليج في ضوء رغبة السعودية في انضمام أنقرة إلى المعسكر المناهض لإيران. وأعلنت تركيا عن تأييدها وإن كان متحفظاً بالسعودية في المراحل الأولى من الحرب في اليمن. إضافة إلى ذلك، انضمت تركيا إلى “الحلف الإسلامي ضد الإرهاب” الذي بادر إليه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 2015. وقام زعماء الدولتين بزيارات رسمية مغطاة إعلامياً، بل أقامتا مجلساً للتعاون الاستراتيجي.
كان هذا التقارب مؤقتاً. فقد شكلت تطلعات تركيا الإقليمية مشكلة لمعظم اللاعبين السُنة المركزيين – الذين لا يزال كل واحد منهم يرى نفسه جديراً بالصدارة الإقليمية. وجراء ذلك، تنافست أنقرة وأبو ظبي والرياض فيما بينها على تصميم النظام الإقليمي، وأيدت أطرافاً متعارضة في النزاعات المختلفة، بما في ذلك الحرب الأهلية في ليبيا. وكانت سياسة أنقرة الداعمة للإخوان المسلمين وقطر مصدر توتر متواصل بين الدول الثلاث. وإلى جانب إقامة قواعد عسكرية وموانئ ودعم للفروع، حاولت الدول إقامة اتحادات وإن كانت هزيلة، كي تحقق مصالحها. في هذا السياق يمكن ذكر تحسين العلاقات في السنوات الأخيرة بين الإمارات والسعودية من جهة، وبين اليونان وقبرص من جهة أخرى.
التحديات القادمة
يبدو أن الحوار بين الأطراف يتركز الآن في التعاون الاقتصادي، فيما أن جوانب سياسية مركزية تبقى مفتوحة إلى جانب شكوك متبادلة أساسية حول التطلعات والدوافع بعيدة المدى لدى الأطراف. وترى الإمارات أن تحسين العلاقات مع أنقرة يتناسب وخططها لتوسيع نفوذها الاقتصادي واستغلال الموقع الجغرافي التركي لهذا الغرض. أما أنقرة، وبسبب أزمتها الاقتصادية المتسعة فيها، فهي بحاجة إلى استثمارات خارجية. أما بخصوص السعودية، فترغب تركيا في دخول متجدد للسوق المحلية في الاقتصاد الأكبر للشرق الأوسط.
فضلاً عن ذلك، تسود في السعودية والإمارات فرضية أن أنقرة السنية كفيلة بأن توازن، وإن جزئياً، قوة إيران الشيعية. يكمن تخوف الخليج في أنه إذا ما وقع الاتفاق النووي المتجدد، أو لم يوقع، فمن شأن طهران أن تعمق أعمالها الهجومية في أعقاب التطورات. وبالفعل، هذه النظرة التركية، كقوة عظمى إقليمية ذات تطلعات لتوسيع نفوذها كانت ضمن أمور أخرى بين أسباب العداء بين تركيا ودول الخليج في العقد الماضي. لكن من الواضح أن تغييراً فكرياً في هذا السياق يتطور في الخليج ووجد تعبيره في محاولة التقرب من تركيا، وهذه المرة كوزن مضاد لإيران. مشكوك أن يكونوا في أنقرة شركاء في هذه النظرة الاستراتيجية: ورغم التوتر مع طهران، فإن السياسة التركية تجاه إيران مختلفة، ويبدو أنها فجوة ستشكل خلافاً بين الأطراف في سياق الطريق.
إضافة إلى ذلك، من شبه المؤكد ألا تتحقق توقعات الخليج إزاء حدوث تغيير استراتيجي في فكر تركيا الإقليمي. فالوجود العسكري التركي في الخليج وتدخلها في ليبيا وفي ساحة البحر الأحمر ما زال يشكل تهديداً. عملياً، تحسين العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي يتغذى من التوازن الدقيق الذي نشأ في أعقاب المحادثات بين الجهات المتخاصمة في ليبيا، والذي يسمح مؤقتاً للاعبين الخارجيين بتلطيف حدة سياساتهم. بالنسبة للسعودية، ثمة حاجة لرؤية ما إذا كانت أنقرة ثابتة من الآن فصاعداً في تأييدها لمواقف الرياض في الحرب الإقليمية في اليمن.
تجدر الإشارة إلى أن الرياض تتقدم بشكل حذر وتدريجي أكثر من أبو ظبي تجاه تركيا، بينما هي في حوار مع أنقرة: في أيار 2021 زار السعودية وزير الخارجية التركي، بعد حديث هاتفي بين الملك سلمان وأردوغان، وفي آذار 2022 التقى وزيرا خارجية الدولتين واتفقا على “تحسين العلاقات”. يبدو أن الحوار نجح في تقليل مستوى التوتر بقدر ما، لكن الخصومة الشخصية بين أردوغان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ستبقى تملي التردد في تطوير العلاقات. لكن ليس واضحاً ما إذا كانت أنقرة ستنجح -مثلما تتوقع أبو ظبي والرياض- في تحسين علاقاتها مع مصر في ضوء مصاعبها في الاعتراف بشرعية نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. مع أن هناك تقدماً في هذا المحور أيضاً. من الجانب التركي، كانت تقارير عن تعيين سفير للقاهرة بعد تسع سنوات من طرد السفير السابق، وعن خطة لزيارة وزير الخارجية المصري إلى تركيا.
كما أن استعداد أبو ظبي للعمل على إعادة البناء السياسي لنظام الأسد في سوريا هو تطور تضطر أنقرة لقبوله بانعدام رغبة، لكن الجمود في الحرب الأهلية يسمح للطرفين بالامتناع عن المواجهة في المسألة السورية. من ناحية تركيا، لدى دول الخليج رافعة ضغط لا بأس بها تجاهها في شكل علاقاتها الموثقة مع اليونان وقبرص، وبخاصة مع إسرائيل. ولأن تركيا تواصل في سياق شرق البحر المتوسط طرح مواقف لا هوادة فيها تجاه وقبرص واليونان، فإن التطورات في هذه الساحة كفيلة هي أيضاً في مفاقمة التوتر بين أنقرة وأبو ظبي.
لا تنظر قطر بعين العطف لهذا التقدم بين تركيا وأبو ظبي والرياض والقاهرة، فقطر تخشى على ما يبدو فقدان دورها المميز عن تركيا في الخليج -فالإمارة تستضيف قاعدة عسكرية تركية- لصالح جيرانها.
كما أن الأطراف تتبنى مناهج مختلفة في كل ما يتعلق بالشكل الذي تتصدى به للمسألة الإسرائيلية – الفلسطينية، بخاصة بعد توقيع اتفاقات إبراهيم. فقد كانت تركيا بين الذين نددوا بالتطبيع بين إسرائيل ودول الخليج، وهددت بإعادة السفير التركي للإمارات بعد التوقيع على الاتفاقات. لم يتحقق التهديد، بل يبدو أن عملية التطبيع دفعت أنقرة عملياً لتعترف بقيود الموقف المعادي الذي تبنته، وأن تنضم إلى الميل. ومع ذلك، فإن تصعيداً مهماً في الساحة الإسرائيلية – الفلسطينية كفيل بأن يخلق ضغطاً من جهة أنقرة على الإمارات لتبريد علاقاتها مع إسرائيل. فضلاً عن ذلك، فإن التحسن بين تركيا والإمارات قد يؤدي إلى تبريد ما في العلاقات بين إسرائيل والإمارات، والتي وضعت لنفسها هدفاً بخوض حوار مع كل اللاعبين في المنطقة، ولا يمكنها أن تبدي مواقف عاطفة تجاه إسرائيل بذات القدر مثلما في الفترة الأولى بعد التوقيع على اتفاقات إبراهيم.
إن قدرة الدول السُنية على تعريف المخاطر وإبداء البراغماتية في العلاقات فيما بينها هي أساس مهم لقدرة تأثيرها على التطورات الإقليمية وإعادة ترسيم خريطة التحالفات. وحقيقة أن الإمارات كانت طليعة في تحسين العلاقات مع تركيا، تشق الطريق للرياض والقاهرة. لكن التحديات التي تقف أمام تحسين حقيقي للعلاقات مع أنقرة تشكل إشارة تحذير للدول العربية لأخذ المغازلة التركية بشكل محدود الضمان. هذا الشك حول مدى استعداد أنقرة للمواظبة في المسارات الجديدة التي تسير فيها، موجودة في القدس أيضاً. ومع ذلك، يدور الحديث عن تغيير إقليمي عام للاتجاه، وهذه الحقيقة تسهم في تعزيز الخطوات المختلفة عملياً.