متابعات-
بعد مدة طويلة امتدت لنحو قرن كامل، تحول الانحسار التركي (العثماني) من الخليج العربي الذي شهدته بدايات القرن الماضي، واستمر مع النظام الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، إلى انتعاش سياسي وعلاقات تقارب متصاعد بين تركيا والخليج منذ قدوم حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مطلع الألفية الجديدة.
وخلال نحو 20 عاماً، مرت العلاقات التركية الخليجية بعدة فترات مختلفة ما بين تقارب كبير، وأزمات في بعضها، قبل استعادة التقارب مؤخراً مع بعض دول الخليج، بالتزامن مع تغيرات في المشهد بالشرق الأوسط والمنطقة والعالم عموماً.
لكن الأهم حالياً هي الولاية الجديدة للرئيس التركي، التي يبدو أنها تمضي نحو استعادة الثقة بين تركيا ودول الخليج، خصوصاً الإمارات والسعودية، ولا سيما مع تغير السياسات الخليجية، وتحديداً مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وهي سياسة متقاربة مع نهج أردوغان خلال سنوات حكمه.
مستمر بالحكم.. وخطوات تقارب
طوى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما يمكن اعتبارها "آخر عقبة انتخابية في حياته السياسية"، إذ تعد السنوات الرئاسية الخمس المقبلة التي منحه إياها الشعب التركي الأخيرة في مسيرة حكم يُنتظر أن تدخل عشريتها الثالثة؛ بالنظر إلى أن التعديلات الدستورية التي دفع بها للاستفتاء العام في 2017 حددت ولاية الرئيس في فترتين، إلا في حال الذهاب لانتخابات مبكرة بموافقة البرلمان.
ووسط أفراح جنونية لأنصاره في مختلف المدن التركية، أعلن مساء 28 مايو 2023 فوز مرشح تحالف "الجمهور" الحاكم في تركيا رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثالثة مدتها خمس سنوات، بعد حصوله على نسبة 52.16%، مقابل 47.84% لمنافسه زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، في نتائج رسمية غير نهائية.
وقبيل الانتخابات في جولتها الثانية كان الرئيس التركي يتحدث دائماً عن سياسته الخارجية، وخصوصاً في علاقاته مع دول الخليج، حيث قال في مقابلة مع قناة "سي إن إن إنترناشيونال"، (19 مايو)، إن السعودية وقطر والكويت والإمارات وكل بلدان الخليج "هي دول شقيقة لتركيا".
وأضاف أردوغان: "ليس من الصواب أن نكون نحن وهم مستائين ومتخاصمين، وقد تجاوزنا هذا الوضع، والآن بدأت الزيارات المتبادلة معهم جميعاً"، متعهداً بنقل هذه العلاقات "إلى نقطة متقدمة أكثر عقب الانتخابات".
وأردف: "إن شاء الله سنتخذ خطوات جادة مع دول الخليج في كل الاتجاهات، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً وتجارياً"، كما كشف اعتزامه إجراء جولة خليجية بعد انتهاء الانتخابات.
أمير قطر أول المهنئين
وانعكس التقارب الأكبر والأبرز بين تركيا وقطر على التهنئة بفوز الزعيم التركي بولاية جديدة؛ إذ كان أمير قطر أول زعيم في العالم يهنئ أردوغان، وقال في تغريدة على "تويتر": "أخي العزيز رجب طيب أردوغان مبارك لكم الفوز، وأتمنى لك التوفيق في ولايتك الجديدة، وأن تحقق فيها ما يطمح له الشعب التركي الشقيق من تقدم ورخاء، ولعلاقات بلدينا القوية مزيداً من التطور والنماء".
وبعد ساعات قليلة هاتف أمير قطر الرئيس التركي، وهنأه بفوزه في الانتخابات الرئاسية، متمنياً له السداد والتوفيق، وللعلاقات بين البلدين مزيداً من التقدم والازدهار، فيما أعرب أردوغان عن تطلع بلاده "لمواصلة العمل مع سموه، وتعزيز العلاقات الثنائية الوطيدة لما فيه خير للبلدين والشعبين الشقيقين"، وفق بيان الديوان الأميري القطري.
كما هنأ العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الرئيس التركي بفوزه، وفق وكالة الأنباء الرسمية "واس".
من جانبه بعث الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ونائباه الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي، والشيخ منصور بن زايد، برقيات تهنئة إلى أردوغان بمناسبة فوزه بالانتخابات الرئاسية التركية، وفقاً لما نشرته وكالة أنباء الإمارات (وام).
كما بعث كل من سلطان عُمان وأمير الكويت وولي عهده، وملك البحرين وولي عهده، برقيات تهنئة للرئيس التركي، تطلعوا خلالها لتطوير العلاقات وتعزيزها.
مفتاح تطوير العلاقات
يرى الباحث في العلاقات العربية التركية محمد قدو الأفندي ضرورة فهم طبيعة العلاقات التركية الخليجية، إذ قال إن مراحل تطويرها "بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة"، مشيراً إلى أنها كانت "برغبة من الطرفين، وذلك لوجود وتوفر آليات وأسس تاريخية وأخوية، ولحاجة الجهتين إلى بعضهما البعض في تطويرها".
ويعتقد "الأفندي" في حديثه لـ"الخليج أونلاين" أن دول الخليج العربي "ترى في تركيا الدولة الإقليمية التي لا يمكن تجاوزها، مثلما تشعر أن علاقاتها الثنائية مع الأتراك لم تكن وليدة اللحظة، ولم يكن الجوار هو وحده الذي دعم تلك العلاقات، بل إن الروابط التاريخية هي حلقة الوصل الأولى بينهما، إضافة إلى الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشأن الداخلي كعامل مهم في إقامة أية علاقات ثنائية".
ويلفت إلى أن أولى ثمرات الفوز "ستكون في الميدان الاقتصادي"، موضحاً بقوله: "المعروف أن رأس المال ينتعش في الأرض الخصبة الأمينة المستقرة، وتركيا في عهد أردوغان أصبحت الملاذ الآمن لرؤوس الأموال التي تبحث عن أسواق لتشغيلها واستثمارها، ولذلك يعتبر فوز الأخير أحد أهم العوامل التي تنعش سوق الاستثمارات في تركيا".
ويؤكد أن المحاولات التركية والخليجية لاستعادة علاقات ثنائية عقب الأزمة الأخيرة "بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة، وقد استطاعت تلك المحاولات رسم خريطة طريق مفصلة لتطوير العلاقات".
وشدد على أن تركيا "تدرك تماماً أن العلاقات التركية مع دول الخليج العربي ستتطور بسلاسة، وليست هناك أية عقبات أو عثرات في طرق تطويرها".
وإضافة إلى ذلك يرى وجود "ميزتين وربما أكثر تمتاز بها تلك العلاقات من غيرها، وهي أن العلاقات بين الجانبين قاطبة لم تحتوِ على مفردات سياسية مشروطة، بل تأخذ الطابع التاريخي والأخوي، بعكس العلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي يفرض شروطاً قد تعتبر تدخلاً في الشأن الداخلي الاجتماعي والسياسي التشريعي لتركيا".
أما الميزة الثانية -وفق "الأفندي"- فتكمن في أن آلية استثمار وتشغيل رؤوس الأموال الخليجية في تركيا تشبه إلى حد كبير آلية تشغيل واستثمار بلدان الخليج، وفي هذه الحالة تعتبر السوق التركية أو السوق الخليجية متشابهة".
وحول قطر قال الأفندي: "علاقة البلدين وزعيمهما نموذجية سادت في الشرق الأوسط بالآونة الأخيرة، وقد تكون نواة لعلاقات شاملة بين الأتراك ودول الخليج".
أما الباحث في الشأن التركي حسن إسماعيل فيرى أن النتيجة التي حققها أردوغان "ستكون مفتاحاً لتعزيز وتطوير العلاقات التركية الخليجية على جميع المستويات، سواء الاقتصادية أو السياسية أو السياحية؛ لكون تركيا أصبحت قبلة لأغلب المواطنين الخليجيين".
ويضيف "إسماعيل" لـ"الخليج أونلاين" أن دول الخليج "ستعمل على المضي بخطوات ثابتة نحو مزيد من التقارب السياسي والاقتصادي مع تركيا، خاصة أنها في عهد أردوغان تحولت إلى قوة اقتصادية وسياسية ضاربة، ولا يمكن الاستهانة بها، في ظل الاستقطاب الحاصل في الشرق الأوسط من قبل أمريكا وروسيا".
وأشار إلى أنه على المستوى السياسي "تعتبر تركيا من أكثر الدول الناجحة في حفاظها على علاقاتها مع كل دول العالم، حيث تنتهج سياسة معتدلة تقوم على مبدأ الاحترام المتبادل والابتعاد عن لغة الإملاءات من الدول الأخرى".
ولفت إلى أن تهنئة أمير قطر التي كانت الأولى "تظهر قوة وعمق العلاقات الثنائية بين الدوحة وأنقرة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، حيث يؤكد المسؤولون في الدولتين دوماً أن العلاقة بين البلدين في تطور مستمر، وأن قادة البلدين يبذلون جهوداً كبيرة في تعزيز العلاقات الاستراتيجية".
ما قبل الانتخابات
يبدو من التقارب الذي سبق الانتخابات التركية، وصولاً إلى تقديم الإمارات والسعودية وديعة مالية وطرح استثمارات واتفاقيات اقتصادية، أن دول الخليج كانت في رغبة باستمرار أردوغان في الحكم، خشية أن يأتي رئيس آخر لا تتفق سياساته مع سياسات الخليج الجديدة.
وعلى الرغم من التوتر التي عاشته تركيا والسعودية والإمارات خلال أزمة الخليج، فإن استعادة العلاقات بعد انتهائها مطلع العام 2021 بوتيرة متصاعدة، ساهم بتسريع التقارب بشكلٍ كبير، وصولاً إلى تحول أنقرة إلى ساحة لاستقبال الاستثمارات.
وقبل الانتخابات بشهرين فقط، ورغم التوقعات التي أفرزتها الاستطلاعات بإمكانية خسارة أردوغان، فإن ذلك لم يمنع الدول الخليجية من دعم حكومته من خلال إعلان الصندوق السعودي للتنمية (6 مارس 2023) أن المملكة العربية السعودية قررت إيداع 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي، مشيراً إلى أن القرار "دليل على التزام السعودية بدعم جهود تركيا لتعزيز اقتصادها".
وحينها ثمّن الخطوة وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نباتي، وقال: إنها "نتيجة إيجابية لثقة إدارة المملكة العربية السعودية بالاقتصاد التركي".
وقبلها بثلاثة أيام أعلن الرئيس التركي، توقيع تركيا ودولة الإمارات اتفاقية لشراكة اقتصادية شاملة لتعزيز التجارة والاستثمارات المتبادلة بين البلدين.
وقال إن الاتفاقية ستأخذ العلاقات الاقتصادية والتجارية إلى مرحلة جديدة، معرباً عن اعتقاده أن الاتفاقية ستمكّن من زيادة حجم التجارة بين البلدين إلى 25 مليار دولار، في غضون خمس سنوات، وهي الفترة التي سيتولى فيها قيادة بلده في ولايته الرئاسية التي بدأت اليوم 29 مايو 2023.
وعلى غرار السعودية والإمارات، كشفت تقارير صحفية، في نوفمبر الماضي، عن اعتزام قطر تقديم تمويل بقيمة 10 مليارات دولار؛ لدعم تركيا خلال الفترة القريبة المقبلة.
ويعتبر الرئيس التركي حليفاً استراتيجياً لقطر، حيث دخل البلدان خلال وجوده في الحكم بعديد من الشراكات العسكرية والاقتصادية، وتحالفا في عديد من الملفات الإقليمية والدولية، فيما بقيت العلاقات مع عُمان والكويت في تقارب دون انقطاع على مدار السنوات الماضية.
وكانت العلاقات التركية الخليجية، خصوصاً مع الإمارات والسعودية، شهدت قفزة نوعية وتعاوناً متسارعاً ومتصاعداً، خلال الأشهر الماضية، عقب انتهاء الأزمة الخليجية، وتبادل الزيارات الرسمية بين الجانبين خلال العامين 2021 و2022.