بدر الراشد- الخليج الجديد-
يُنبئ الإعلان السعودي ـ التركي عن إنشاء مجلس تعاون استراتيجي بين البلدين، أثناء الزيارة الثالثة عام 2015 للرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» إلى السعودية، أمس الأوّل الثلاثاء، بخطوات أكبر على صعيد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، لا سيما في ما يخصّ القضايا العالقة في المنطقة. وتأتي هذه الزيارة، بعد ترحيب أنقرة بإعلان الرياض قبل أسابيع عن «التحالف الإسلامي» لمواجهة الإرهاب، والتنسيق العالي المستوى بين البلدين، في محاولات لإيجاد حلّ في سورية، ودعم تركيا لمخرجات اجتماع المعارضة السورية في الرياض، أخيراً.
لم تكن العلاقة السعودية ـ التركية سيئة خلال السنوات القليلة الماضية، لكنها مرّت بفترات حرجة جراء التباين الكبير بين البلدَين حيال الانقلاب العسكري في مصر. دعمت السعودية ودول أخرى انقلاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، سياسياً واقتصادياً، باعتباره خياراً مقبولاً لمنع انهيار الدولة المصرية من وجهة نظرهم. بينما ترى تركيا في الانقلاب مشكلة كبرى، فضلاً عن أنّه قام ضد تجربة ديمقراطية وليدة، وجاء لإقصاء الإسلاميين، ممثلين بحركة «الإخوان المسلمين» عن الحكم، والذين ينظرون لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم في أنقرة، كتطور وامتداد لهم من الناحية الأيديولوجية.
يأتي تعميق التعاون السعودي ـ التركي مدفوعاً برغبة الطرف الأخير في الانفتاح على الفضاء العربي، بالتوازي مع عقد علاقات جيدة مع الجانب الأوروبي، باعتبار أنّها سياسات «العدالة والتنمية» المعلنة منذ مطلع الألفية. أما من الناحية السعودية، فالعلاقات مع تركيا تكتسب بعداً استراتيجياً، خصوصاً بعد إبداء الولايات المتحدة رغبتها، بشكل واضح، بالتخلي عن مواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربية، وترك هذا الدور لدول المنطقة، كما أكّد الرئيس الأميركي «باراك أوباما» لقادة الخليج خلال لقاء كامب ديفيد في مايو/أيار الماضي.
وجدت دول الخليج والسعودية، تحديداً، نفسها بعد 2011 في عالم عربي مختلف، لم يعد قائماً على التوازنات الاستراتيجية التي كفلت للمنطقة جمودها السياسي على مدى عقود. فقد تهاوت أنظمة عربية، وسقطت دول في دوّامات وصراعات أهلية دموية، ما فرض على الرياض التعاطي بطرق مختلفة مع هذا التغيّر. جاء ذلك، بالتوازي مع تضخُّم خطر الإرهاب في المنطقة، وتمدُّد إيراني عبر مليشيات طائفية عابرة للحدود، بدأت تهدد دول الخليج بشكل مباشر، كما حدث في الكويت والبحرين، أخيراً.
ويأتي في مقدمة أولويات السعودية في المنطقة، مواجهة النفوذ الإيراني، والإرهاب، لا سيما تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، فضلاً عن محاولاتها إعادة الاستقرار إلى الدول المحيطة بها بأي ثمن، واستخدام طرق متباينة من ساحة إلى أخرى. وبينما اختارت السعودية التدخل مباشرة في اليمن لمواجهة التمدد الإيراني من خلال إنشاء التحالف العربي القائم على مواجهة قوات الرئيس اليمني المخلوع «علي عبدالله صالح»، ومليشيات الحوثيين المدعومة إيرانياً، تعمد إلى المشاركة في التحالف الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة لمواجهة «داعش» في العراق من خلال سلاحها الجوي.
وفي الوقت الذي دعمت الرياض الانقلاب في مصر، سياسياً واقتصادياً، فإنها تدفع في المقابل، باتجاه رحيل الرئيس السوري «بشار الأسد»، من خلال تقديم الدعم العسكري إلى «الجيش السوري الحرّ»، وتشكيلات المعارضة المسلّحة التي توصف بـ«المعتدلة». الساحات التي تنشط فيها السعودية شائكة ومتباينة. لذا، يُعتبر تقاربها بشكل مختلف، بما يخدم مصالحها.
كما أنّ لتركيا أولوياتها المختلفة في صراعات المنطقة، إذ تُعتبر مواجهة الإرهاب، «داعش» وحزب العمال الكردستاني، أولوية لدى أنقرة بامتياز، كجزء من إعادة الاستقرار إلى العراق وسورية الملاصقتَين لحدودها. وبينما لا يبدو أنّ مواجهة إيران هاجس تركي، إلّا أن هذا الأخير مرتبط بالضرورة بإعادة الاستقرار إلى دول المنطقة، باعتبار أنّ طهران من العوامل الرئيسية لزعزعة الاستقرار فيها. وتأتي مواجهة الإرهاب، من وجهة نظر تركية، في سياق قضايا أكبر تواجهها أنقرة، وتتمثل في تدفق اللاجئين، ولا سيما السوريين، ومواجهة حزب «العمال الكردستاني» (الجناح العسكري لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي)، الذي تصنّفه تركيا كحزب إرهابي.
وتأتي «المسألة الكردية» كأولوية أخرى لتركيا، بينما لا يشكّل الأمر هاجساً سعودياً. وهنا، يرى مراقبون أنّه يمكن للبلدين التنسيق في مسألتَي (التعاطي مع الأكراد، والنفوذ الإيراني)، بصورة تضمن قدراً مهما من التوافق، باعتبار أن لا موقف سعودياً صلباً تجاه الأكراد، ولا يوجد موقف تركي صلب ضد الإيرانيين. إلّا أنّ أنقرة تتقاسم مع الرياض النظرة الرافضة للوجود الإيراني في سوريا والعراق.
وبدأ التعاون الاستراتيجي السعودي ـ التركي من الأراضي السورية، إذ نسّق البلدان، منذ أشهر، بالتعاون مع قطر، مواقفهم السياسية القائمة على رحيل الأسد، ومقررات جنيف 1، والدفع بهذا الاتجاه سياسياً وعسكرياً، في ما يعد قطع أي خط رجوع في هذه المسألة. لذا يقرأ متابعون، مجلس التعاون الاستراتيجي السعودي ـ التركي، باعتباره تأسيساً على التعاون القائم بين البلدَين منذ أشهر على الساحة السورية، لا سيما بعد دخول الجانب الروسي على الخط، وإسقاط تركيا لمقاتلة روسية اخترقت أجواءها. فأصبحت المعركة تتجاوز الثورة السورية، لتتحول إلى صراعات إقليمية أوسع، بحاجة لبناء تحالفات أكبر.
كما يفسّر هؤلاء المتابعون، الرغبة بتعميق التعاون بين البلدَين من خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، مع نظيره التركي، مولود جاووش أوغلو، على هامش زيارة أردوغان إلى الرياض. وأكّد الجبير على «تطابق الرؤى بين البلدين في مختلف القضايا السياسية والأمنية التي تعيشها المنطقة». كمّا نوّه وزير الخارجية السعودية بـ«الموقف التركي الداعم للتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب»، مشيراً، بشكل صريح، إلى التباحث في ما يخصّ مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة.
من ناحيته، أكّد «جاووش أوغلو»، دعم تركيا للسعودية في جهودها في «التعامل مع قضايا المنطقة على الصعيدَين السياسي والعسكري». وأشار إلى دعم تركيا للتحالف العربي في اليمن، ولجهود الرياض في جمع المعارضة السورية، مؤكداً دعم أنقرة للبيان الصادر بخصوص إيجاد حلّ سياسي في سوريا.
تحتاج تركيا إلى حلفاء من المنطقة يضمنون الحفاظ على الحد الأدنى من مصالحها في هذه الدول، ويمنحون تدخلاتهم قدراً من الشرعية السياسية، ويتعاونون معها ضد الإرهاب، ويساندونها في مسألة اللاجئين. بدورهم، يحتاج السعوديون إلى قوة إقليمية تدعم جهودهم لإعادة الاستقرار في العراق وسورية، ومواجهة التمدد الإيراني. لذا يأتي التحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب، والذي أعلنت عنه السعودية في ديسمبر/كانون أوّل الحالي، والإعلان عن مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين، في إطار هذا التعاون. هي مبادرات يُنتظر أن تُترجم إلى خطوات عملية على أرض الواقع خلال الأشهر القليلة المقبلة.