راصد الخليج-ناشونال انتريست- محمد ناروزامان
المحللون من دول الخليج العربية يبدون أكثر تفاؤلا حول الهيمنة العسكرية المحتملة للمملكة العربية السعودية في المحيط الخليجيي ومنطقة الشرق الأوسط. وقد جادل أحد المعلقين الخليجيين مؤخرا في مقال نشرته «ناشيونال إنترست» حول أن المصلحة الوطنية أن تستعد الرياض بالتعاون مع السنة العرب والحلفاء المسلمين لموقف يقتضي ملئ الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط. إن المملكة، من خلال «عقيدة سلمان»، سوف تقوم بهزيمة «الدولة الإسلامية» والجماعات المتطرفة الشيعية في العراق وسوريا وبالتصدي للطموحات الإقليمية لإيران التي تريد تغيير 1400 عاما من السيطرة السنية. ويبدو أن المعلق كان متأثرا بقوة النيران الإقليمية والنزوع إلى البلاغة أكثر من إدراك الوقائع على الأرض.
الضجيج حول الدور العسكري المتصاعد للمملكة العربية السعودية بدأ مع صعود الملك «سلمان بن عبد العزيز» إلى العرش في يناير/كانون الثاني عام 2015. وقد تميز نهج الملك الجديد في السياسة الخارجية بتحول كبير عن سياسة ضبط النفس التقليدية نحو السعي إلى القيام بدور أكثر حزما في الشؤون الإقليمية. بعد شهرين فقط من تتويجه ملكا، فقد قام بشن هجوم جوي على اليمن في أواخر شهر مارس/آذار من العام 2015 لمعاقبة المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، الذين أجبروا الحكومة المدعومة من السعودية بقيادة الرئيس «عبد ربه منصور هادي» على الفرار من البلاد. كما قام أيضا بتكثيف دعم بلاده لجيش الإسلام، وهو تحالف فضفاض مكون من ثلاثة وأربعين جماعة إسلامية ملتزمة بإقامة الشريعة في سوريا، لإسقاط حكومة «بشار الأسد»، الحليف العربي الوحيد لإيران.
لكن السعوديين هم بالكاد قريبين من تحقيق أهدافهم المعلنة سواء في اليمن أو في سوريا. هناك دلائل تشير إلى أن الرياض تخسر محاولتها للهيمنة الإقليمية، وأنها تعرض مصداقيتها كثقل موازن لإيران إلى خطر كبير. الرئيس «هادي» لا يزال يرأس حكومته من المنفى بينما تتجه السعودية الآن للتفاوض مع الحوثيين من أجل إنهاء عمليتها العسكرية. ويبدو أن المملكة على استعداد لأن تخرج من اليمن في صورة الخاسر لتترك المعارضين الحوثيين يهتفون بالنصر، وربما يسيطرون على السياسة في اليمن في المستقبل.
في سوريا، لم تكن حكومة «الأسد» قريبة من السقوط في أي وقت على الرغم من الهزائم المتتالية التي منيت بها على أيدي الجماعات المتمردة المتفرقة في النصف الأول من عام 2015. ولكن في الآونة الأخيرة، فإن التدخل العسكري المباشر في روسيا، والذي بدأ في سبتمبر/أيلول الماضي قد أعطاه مزيدا من الحياة ومكنه من تحجيم الجماعات المتمردة المدعومة من السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة. بقاء الرئيس «بشار الأسد» يبدو الآن مضمونا أكثر من أي وقت مضى خلال مسار الحرب الأهلية التي استمرت لمدة 5 أعوام.
سياسة استعراض العضلات
في وسط محاولة المملكة العربية السعودية الحالية من أجل الهيمنة الإقليمية يقع النهج العضلي الذي يبرزه الملك «سلمان» في سياسته الخارجية. هذه السياسة التي ترتكز بشكل أكبر على القوة العسكرية أكثر من الأدوات الدبلوماسية أو حتى المال والتأثير الديني اللذين طالما ميزا جهود الرياض في تعزيز مصالحها. بدأت هذه السياسة الحازمة مع إجراءات الملك الراحل «عبد الله» المضادة لثورات الربيع العربي. قام الملك «عبد الله»، في تحد للمخاوف الأمريكية ورغبة في استعراض العضلات في مواجهة إيران، بإرسال قوات إلى البحرين في مارس/آذار 2011 من أجل قمع الحركة الشيعية المطالبة بالديمقراطية. في سبتمبر/أيلول 2013، فقد قرر أيضا تسليح وتمويل الإسلام في سوريا من أجل مجاراة تنظيمي القاعدة و«الدولة الإسلامية» والنجاح في نهاية المطاف في تحويل دفة الحرب الأهلية السورية للإطاحة بـ«الأسد». وقد تابع الملك «سلمان» سياسة سلفه بقوة أكبر مضيفا درجة أعلى من الحزم العسكري كما ظهر في اليمن.
تحدي إيران الشيعية، ومع ذلك، لا يزال جزءا أساسيا من سياسة الملك «سلمان». ليس هناك شك في أن الحركات الديمقراطية العربية قد توسعت بشكل مباشر أو غير مباشر في مجال النفوذ الإيراني ولو بشكل افتراضي. وقد مهد ذلك الطريق أمام إيران والميليشيات الشيعية اللبنانية المدعومة من قبلها للمشاركة عسكريا في سوريا للدفاع عن حليفهم، حكومة «الأسد». وعبر الحدود العراقية، فقد قامت إيران بتوثيق علاقاتها مع مختلف الجماعات السياسية الشيعية العراقية والميليشيات في أعقاب قيام الولايات المتحدة بالإطاحة بنظام «صدام حسين» في عام 2003. ومع صعود «الدولة الإسلامية» في أواخر يونيو/حزيران من العام 2014 فقد تعززت هذه العلاقات بشكل أكبر. وتخشى المملكة العربية السعودية، بعد أن انزلقت سوريا والعراق إلى حد كبير في أيدي الإيرانيين، أن يتحول الحوثيون إلى وكيل آخر لنشر النفوذ الإيراني في شبه الجزيرة العربية، وبالتالي توسيع ما يسمى بـ«الهلال الشيعي» من بيروت إلى صنعاء عبر دمشق و بغداد.
يشعر السعوديون بنفس القدر من الفزع بسبب التحول التدريجي في السياسة العامة للولايات المتحدة تجاه إيران، على حساب حلفائها من العرب. ولسوء حظهم، فإن إدارة «أوباما» قد قامت بالتفاوض على صفقة نووية مع إيران في يوليو/تموز من العام 2015 حيث وافقت إيران على تقليص، وليس تدمير، برنامجها النووي في مقابل تخفيف العقوبات. وينظر السعوديون، وكذلك (إسرائيل)، إلى الصفقة على أنها تزيد من حالة عدم الاستقرار كما أنها تخل بالتوازن السياسي والعسكري في المنطقة. هم يرون من الناحية الواقعية أن الصفقة تعزز المواقف الاقتصادية والعسكرية الإقليمية لطهران، وتزيد من فرصها في الانخراط في التجارة العالمية وإدماج نفسها في الاقتصاد العالمي. وهي النتيجة التي سعت (إسرائيل) ودول الخليج العربي إلى وقفها دون جدوى.
السعوديون كانوا يتشكون بالفعل في أن الولايات المتحدة لم تأت للدفاع عن المصري القوي «حسني مبارك» أو التدخل في سوريا للإطاحة بحكومة «الأسد»، وهي تصرفات لم تكن تتطابق مع المصالح الأمريكية التقليدية في المنطقة. وقد قام الرئيس الأمريكي مؤخرا بوصف حلفائه في دول الخليج العربي بأنهم «راكبون بالمجان»، الذين يريدون جر الولايات المتحدة إلى طاحونة الصراعات الطائفية التي لا علاقة لها بالمصالح الأمريكية. وبالنسبة للولايات المتحدة، التي تواجه الصين الصاعدة في شرق آسيا، فإن توطيد أقدامها في مناطق العالم الهامة الأخرى أكثر أهمية من التورط في النزاعات الطائفية في منطقة الشرق الأوسط، مدفوعة من قبل إيران والمملكة العربية السعودية.
استراتيجيات الهيمنة السعودية
وقد استجابت السعودية لهذه التطورات غير المواتية على بعدين: هما تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وتشكيل تحالفات لمواجهة إيران ووكلائها بحزم. كلا البعدين قد أثبت في نهاية المطاف أنه غير فعال.
أولا، قامت الرياض بالتقارب مع الصين وروسيا والهند لتعزيز نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي. ولكن كلا من الصين وروسيا هما بالفعل أكثر توافقا مع إيران، بينما لا تحظى الهند بنفوذ كبير في الشرق الأوسط. كان من الصعب العثور على حليف بديل. بدلا من ذلك، فإن العلاقات التجارية والعسكرية والدبلوماسية الوثيقة قد دفعت السعوديين لتجنب القفز بشكل تام من المدار الأمريكي.
ثانيا، قررت الرياض استعراض عضلاتها العسكرية واحتواء النفوذ الإيراني من خلال تشكيل تحالفات عربية (التحالف الذي تقوده في اليمن) وإسلامية (التحالف المكون من 34 دولة الذي أعلن عنه في ديسمبر/كانون الأول الماضي وارتفع لاحقا إلى 40 دولة). تبدو هذه التحالفات كتحالفات على الورق أكثر مما تبدو كأنها كتل عسكرية حقيقية. وقد عانى التحالف السعودي في اليمن ضربة قوية بعد أن صوت البرلمان الباكستاني في أبريل/نيسان 2015 على البقاء بعيدا عن الصراع في اليمن. رفضت عمان، الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي أن تكون طرفا في النزاع، في حين أن مصر قد وضعت نصب أعينها الكارثة التي حلت بها حين تدخلت في اليمن في الستينيات، وقد ماطلت في إرسال أي قوات لدعم الهجوم البري السعودي في اليمن. وقد وافق السودان على المشاركة بالقوات بعد أن حصل على دعم بقيمة 2.2 مليار دولار من كل من قطر والمملكة العربية السعودية. وقد حصلت مصر على امتيازات نفطية وتعهدات استثمارية بقيمة تفوق 8 مليارات دولار. في النهاية، حصلت السعودية الدعم العربي اللازم للحرب على الحوثيين ولكن بتكلفة كبيرة.
لم يكن التحالف الإسلامي أفضل حالا. هذا التحالف لم يستبعد فقط تلك الدول ذات الأغلبية الشيعية ولكنه لا يشمل أيضا جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية وأفغانستان. كما أن كلا من عمان والجزائر ليسا أعضاء في الحلف. هناك أيضا الكثير من الصعوبات التي تقف في وجه تحويل هذا التحالف إلى تكتل عسكري فعال مثل محدودية القدرات العسكرية للكثير من أعضائه فضلا عن مشاكل الالتزام؛ والمسافات الجغرافية الشاسعة والشقوق المحلية السياسية منها والدينية. لا يوجد أي موضوع استراتيجي مشترك بين هذه البلدان بخلاف العلامة التجارية السنية للإسلام التي تربط بينهم.
قيود الهيمنة السعودية
المملكة العربية السعودية لديها نقاط ضعف أساسية خاصة بها تكمن معظمها في النظم الاقتصادية والعسكرية، وينبغي عليها تجاوز هذه النقاط من أجل تأكيد هيمنتها الإقليمية. الاقتصاد السعودي يعتمد بشكل مروع على صادرات النفط التي تشكل 80% من إيراداته و90% من صادراته. لا يزال الاقتصاد أقل تنوعا على الرغم من برنامج التحديث واسع النطاق الذي بدأه الملك فيصل منذ الستينات. وغالبا ما يجعلها الاعتماد الكبير على النفط عرضة للتقلبات واسعة في أسواق النفط العالمية .
وقد أجبر الانخفاض الأخير في أسعار النفط السعوديين على إعلان عجز كبير في الموازنة في عام 2015، يقدر بـ20% من الناتج المحلي الإجمالي ومن المرجح أن يستمر لبضع سنوات أخرى. وعلاوة على ذلك، فإن تكلفة الحرب في اليمن وفاتورة دعم المعارضة السورية تؤثران بالسلب على الاقتصاد السعودي. تتكبد الرياض تكلفة تقدر بـ200 مليون دولار يوميا نتيجة لعملياتها العسكرية في اليمن وهي التكلفة التي لا يستطيع الاقتصاد السعودي المتردي تحملها في الوقت الراهن. وهناك مثال مواز يكمن في الإنفاق العسكري المرتفع للولايات المتحدة أثناء حرب العراق والذي بلغ إجمالا 2 تريلليون دولار بما يعادل 4.75% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في عام 2011. في نهاية المطاف فقد اختارت الولايات المتحدة الانسحاب وترك ملف العراق إلى إيران، ويمكن للمرء أن يتساءل هنا إذا ما كان هناك مصير مماثل ينتظر السعوديين في اليمن.
وهناك مجال آخر للقلق بشأن مخاطر التدخلات العسكرية للرياض. المملكة تحافظ على استيراد المعدات العسكرية الأجنبية، من طائرات مقاتلة متعددة المهام إلى صواريخ موجهة ما جعلها المستورد الأكبر للأسلحة في العالم في عام 2014، بمجموع نفقات دفاعية بلغ 64 مليار دولار. وخلال الفترة بين عامي 2011 إلى 2015، ارتفعت النفقات العسكرية للرياض بنسبة 275% بالمقارنة بالسنوات الخمس السابقة. هذا هو جزء من الاتجاه العام لشراء الأسلحة في بلدان الشرق الأوسط التي شهدت ارتفاعا في مبيعات الأسلحة بنسبة 61% خلال نفس الفترة. والسؤال هو ما إذا كانت دولة مثل المملكة العربية السعودية يمكنها أن تؤكد هيمنتها الإقليمية العسكرية اعتمادا على الأسلحة المستوردة في حين أن منافستها إيران قد تحققت تقدما ملحوظا على طريق الاكتفاء الذاتي من التسلح. المملكة العربية السعودية لا تقوم بإنتاج أي أسلحة كبيرة أو منظومات للأسلحة وهو ما يجعلها دوما عروضا لضغوطات المصدرين لاسيما في أوقات الأزمات العسكرية الإقليمية. ومن الأمثلة على ذلك قرار البرلمان الأوروبي مؤخرا الدعوة إلى فرض حظر على تصدير الأسلحة إلى الرياض بسبب التداعيات الإنسانية للحملة العسكرية التي تقودها البلاد في اليمن.
عموما، يبدو أن المملكة العربية السعودية قد ورطت نفسها في سياسة حافة الهاوية التي يصعب التراجع عنها. ولكن محاولتها إظهار وكأنها القوة العسكرية المتفوقة في المنطقة والمسيطرة على الشؤون الإقليمية قد تنتهي في وقت قريب.