حافظت القاهرة منذ بداية الحرب السعودية على اليمن على مسافتها منها، على الرغم من مشاركتها الرسمية في «التحالف». وفيما يكبر التمايز بين السعودية ومصر في الملفين السوري والعراقي، تتجه الأنظار إلى الساحة اليمنية التي قد تكون التالية في ترجمة الافتراق التدريجي بين الحليفين
يصر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على التمايز مع السعودية في أهم الملفات سخونةً في المنطقة، ولا سيما في سوريا والعراق. التمايز المصري والإصرار عليه لا يعنيان أن العلاقات بين البلدين وصلت إلى مرحلة الاستعصاء أو العقم.
كما أن الافتراق بينهما لم يصل بعد إلى ملفات أخرى كالحرب على اليمن، وإن كانت القاهرة تأخذ مسافة كبيرة عن الرياض في مقاربتها لهذه الحرب منذ بدايتها.
مصر هي إحدى دول التحالف العربي المشكل للحرب على اليمن بقيادة سعودية. وقد أوكلت الرياض إلى القاهرة مهمة حماية السواحل اليمنية. وشاركت بحريتها ببعض المهمات في الشهور الأولى للحرب. غير أن مصر لم تشارك بفعالية بالنشاط البحري على السواحل اليمنية أو تدخل بمواجهات عسكرية مع الجيش اليمني. شاركت مصر في الحرب وفقاً لما تعتبره حقها في حماية باب المندب المتصل بتأمين قناة السويس والمرتبط أيضاً بدورها الاستراتيجي في البحر الأحمر، الأمر الذي ليس موضع خلاف مع اليمن في الأصل. في الجانب السياسي، ظلت المواقف المصرية شحيحة بهذا الشأن، مع صياغة دبلوماسية بعيدة عن السياقات السعودية للحرب ومستوى العداء التي تمارسه الرياض بحق اليمن. لم تعمل القاهرة منذ بداية الحرب على تأجيج المشاعر ورفع منسوب الدعاية الإعلامية والسياسية باتجاه صنعاء. ولم يضع إعلامها نصب عينيه التركيز على نصرة السعودية. بل إن بعض الإعلام المصري يثير من وقت إلى آخر شكوكاً واسعة عن جدوى هذه الحرب وعن لزوم مشاركة بلادهم فيها بغض النظر عن حجم هذه المشاركة. كما أن القاهرة استقبلت أكثر من مرة وفودا يمنية من الاطراف كافة، بما فيها وفود اتية من صنعاء، وأخرى صديقة أو حليفة لها. وقد قالت سابقاً إحدى الشخصيات اليمنية البارزة والقريبة من الطرفين لـ«الأخبار» إنه عمل على تبادل الرسائل بين الطرفين، واكتشف أن هناك تفهماً كبيراً لكل منهما، كما أن الطرفين يتفهمان خصوصية بعضهما بعضا، على أن تبقى في الإطار الحالي، وتفيد تلك الشخصية بأن الجانب المصري لم يعمد إلى رفع منسوب مشاركته في الحرب بما يزعج صنعاء، كما أن الأخيرة لم تتعامل مع القاهرة كطرف معادٍ.
السعودية بدورها حاولت دائما استرضاء القاهرة دافعةً إياها إلى تعزيز مشاركتها من خلال التدخل البري. ولعب إعلامها على التسويق في أكثر من مرة لكون القوات البرية المصرية بطريقها للوصول إلى اليمن. وفي بداية الحرب البرية على الحدود، أشاع الإعلام السعودي أن كتيبة مشاة مصرية (باكورة التدخل المصري البري) وصلت بالفعل إلى الحدود وهي في طريقها الى مأرب، وبعد ساعات قليلة نفت الرئاسة المصرية الخبر جملة وتفصيلاً.
وقد جاءت مقابلة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة مع التلفزيون البرتغالي ليصر خلالها على تمايز بلاده عن السعودية في الملفين السوري والعراقي، ويقطع بذلك الشك باليقين حول المضي بخصوص الافتراق مع الرياض ويكون بذلك قد التقى بالأهداف مع «محور المقاومة» والحليف الروسي اللذين يدعمان الجيش السوري في قتاله ضد الجماعات الإرهابية، من دون أن يعقد الجانبان (أي «محور المقاومة» والقاهرة) تفاهماً رسمياً. والأمر نفسه ينطبق على العراق، وإن كان الرئيس المصري لم يوضح الاليات التي تدعم فيها بلاده الجيشين السوري والعراقي.
معنى ذلك أن الحروب التي تخوضها السعودية وبعض دول الخليج الاخرى بالوكالة، في الساحات العربية، (سوريا والعراق)، أصبحت تخاض من دون العمق العربي والقومي، وبذلك خسرت السعودية ما كان يعدّ في السابق إجماعاً عربياً، والدعامة الرئيسية التي استظلت بها الرياض حتى الأمس القريب.
لم يأتِ الرئيس السيسي في مقابلته التلفزيونية على ذكر دور بلاده في الحرب على اليمن، وأبقى الأمر معلقاً. يدرك السيسي أن السعودية تقود الحرب على اليمن على نحو مباشر لا بالوكالة، وهي تعمل على أن هزيمتها في هذه الحرب ستؤثر في أمنها القومي. بل إن بعض الكتاب السعوديين يؤكدون أنها مسألة وجود بالنسبة لهم. تعلم القاهرة مثل غيرها، أن السعودية غارقة حتى أذنيها بالوحول اليمنية، وهي لا تحتمل افتراق مصر عنها في الحرب على اليمن، مثلما افترقت في تمايزها عنها في سوريا.
يُبقي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، شعرة معاوية مع الرياض باتباع سياسة المسافة الواحدة بين اليمن والسعودية وموازنة علاقاته بين الطرفين، فاسحاً المجال أمام الوساطات أن تأخذ مداها في ترميم العلاقة بين الرياض والقاهرة وتجاوز خلافاتهما.
ويبدو أن مسألة انتقال التمايز المصري في بعض الملفات إلى ملفات أخرى بات مرجحاً، وخصوصاً أن الرياض استقبلت في الأيام الاخيرة رئيس الوزراء الإثيوبي، هايلي ماريام ديستالين، مع ملاحظة الحفاوة الكبيرة التي حظي بها الضيف الذي تمثل بلاده ــ عبر إقامة «سد النهضة» ــ خطراً استراتيجياً على الأمن المائي في مصر.
العقلية الحاكمة في السعودية لا تقبل أنصاف الحلول على عكس ما تبني عليه الدول سياساتها في المنطقة، مثل العلاقة بين إيران وتركيا المختلفتين في الساحتين السورية والعراقية ولكنهما تبنيان علاقات قوية في المجالات الاقتصادية. ووفق هذه العقلية، تظل الرياض عاجزة عن بناء علاقات إلا ضمن أجندتها الكاملة من دون مراعاة خصوصيات الحلفاء.
السؤال الذي يُطرح في هذا السياق، إذا استمرت الرياض في الردّ على التمايز والافتراق مع القاهرة بشأن سوريا والعراق في المضي بتطوير علاقاتها مع إثيوبيا، لدفعها الى اتخاذ إجراءات تمثّل خطراً على مصر، ماذا سيكون حينها الموقف المصري؟ وهل ستحتمل الرياض ردود الفعل المصرية؟
لم يصل سوء العلاقة بين الجانبين الى حد القطيعة الكاملة، لكن الأكيد أن القاهرة تتدرج بمواقفها المتباعدة عن الرياض، فيما بات جانب من سياستها يصب في مصلحة خصوم الأخيرة على الأقل في المستويين السياسي والأمني. والعلاقات الكاملة أصبحت جراء ذلك على المحك، وبينما تظهر القاهرة ارتياحها لنتائج الانتخابات الأميركية، وعلاقة الرئيس الأميركي المنتخب مع الرئيس المصري، تبدو الرياض غير مرتاحة ويعيش أمراؤها الخشية من أن يطبق دونالد ترامب ما وعد به بتصريحاته الانتخابية بشأن السعودية.
لقمان عبدالله- الاخبار اللبنانية-