منذ زمن المنتديات الحوارية مطلع هذا القرن، وتحديداً الفترة التي زامنت تفجيرات الرياض عام ٢٠٠٣ بواسطة تنظيم «القاعدة» وأنا وكثير من الأعضاء آنذاك في تلك المنتديات نطالب بمعاقبة قطر وقناة «الجزيرة»، بسبب ما مارسته هذه القناة من كل أنواع الدعم الإعلامي لتنظيم «القاعدة». كانت مثلاً تأتي بمحامي «الإخوان المسلمين» منتصر الزيات لتحليل الوضع بعد كل تفجير دموي يقع في المملكة. وكان الزيات يبدي الكثير من المكر والتعاطف مع ما يجرى. في إحدى المرات وبعد توالي عدد التفجيرات في المملكة، تمت استضافة الداعية السعودي المتطرف سفر الحوالي الذي بادر وبجرأة لم يسبقه إليها أحد بطرح فكرة محاولة إقناع «القاعدة» بالتوقف عن العمليات الإرهابية في مقابل إطلاق الحكومة السعودية سراح الموقوفين في سجون المملكة ممن تورطوا في اعتناق هذا الفكر.
لم تكن تخلو تلك الحوارات في المنتديات من جدل واسع بين التأييد والإنكار. وأذكر شخصيات بارزة في منتدى «الساحة العربية» الذي كان يعتبر وقتها منبراً مهماً لتيار الصحوة تقف ضمناً مع بن لادن ولا تخشى أحداً. أسماء أصبحت معروفة الهوية وهؤلاء بالمناسبة يعيشون في المملكة على رغم أن بعضهم من أصول أجنبية وتم الكشف عن هوياتهم في ما بعد. كانوا يخوّنون كل من يقف مع الحكومة السعودية في قمعها وضربها الإرهاب مستخدمين منطلقات «القاعدة» وقناة «الجزيرة». تلك المواقف تذكرني اليوم ببعض السذج السعوديين مع الأسف ممن وقف معانداً ضد الإجراءات التأديبية التي اتخذتها المملكة ضد قطر بعد ظهور ما أصبح يعرف بـ #تصريح_تميم. موقف هؤلاء يدور فقط حول وسائل الإعلام السعودية الرسمية منها والتجارية التي تسابقت لنشر التصريح والتعليق عليه، متناسين فحوى التصريح ومتناسين أيضاً أنه متوافق تماماً مع ما جاء في التسجيلات المسربة بين الشيخ حمد بن خليفة والقذافي قبل بضع سنوات.
مواقف قناة «الجزيرة» التي تعكس إرادة حكام قطر لم تقف هنا، فحرصت وفي شكل مستميت على بث ما تسميه البرامج الوثائقية الموجهة تحديداً للإضرار بالمملكة ووحدتها. أذكر مسلسلاً خاصاً يتحدث عن الفساد في صفقات شراء الأسلحة في المملكة، وتمت تسميته «سوداء اليمامة»، وكال منتج البرنامج كل الاتهامات لعدد كبير من الأمراء والمسؤولين السعوديين وبالأسماء من دون أن يرفق مع هذه التهم أدلة ملموسة كما هو العمل الصحافي البحثي المحترف.
الغريب في هذا الأمر كان صبر المملكة وصمتها الذي حطم كثيراً من معنويات من يقفون ضد هذه الممارسات العدوانية الفاضحة ومنهم كاتب هذه السطور. هذا الصمت رسّخ الوهم لدى القائمين على تلك قناة «الجزيرة» والحكومة التي تديرها بأنهما فوق المساءلة وأن لا أحد يستطيع إيقافهما أو تخويفهما.
مع «القاعدة» في ذلك الوقت كان الدعم يقف عند بث خطب بن لادن والظواهري وبقية زعماء تلك المنظمة الهالكة مع التغطية الإعلامية المميزة للتفجيرات. في السنوات الـ15 الأخيرة وخصوصاً مع وصول الرئيس أوباما قبل تسع سنوات، زادت الحرفنة القطرية وتمددت إلى الدعم المعنوي والمالي وإن بطرق ملتوية. آخرها بالطبع وقوف قطر بكامل إمكاناتها مع جماعة «الإخوان المسلمين» التي تعد الأمّ البيولوجية لجميع التنظيمات الإرهابية التي تنتشر حالياً تحت غطاء الجماعات الإسلامية. حضور «داعش» ووحشيته وقبحه بالطبع جعلت البعض يعيد الحسابات قليلاً، إلا قطر. إذ استمرت تسمي «داعش» بالمسمى النظيف الذي اختاره التنظيم لنفسه وهو «الدولة الإسلامية»، خلافاً لكل دول العالم التي تبنت «داعش» من باب التحقير والازدراء بما يبعده عن مفردة الدولة الإسلامية.
«الجزيرة» رفضت السير مع الجماعة واستمرت بتسميته، وكأن هذا هو الاسم المسجل لـ «داعش» في المنظمات الدولية والحقوقية التي تعترف به.
أقصى حالات الغضب من المملكة ودول الجوار مع كل هذه المواقف كان سحب السفراء قبل أربع سنوات بسبب موقف من هذه المواقف، لكنه سرعان ما انطفأت هذه الحماسة بعد أن هرع أحدهم إلينا وقبّل الكتوف والأنوف.
اليوم وبعد ظهور #تصريح_تميم الذي سارع البعض في الدوحة إلى نفيه، لم يبقَ للصبر مكان. شخصياً توقعت شيئاً كهذا وأقصد غضب المملكة ودول الخليج عندما اطلعت على المقالة التي حررها وزير خارجية إيران ظريف، وسارعت صحيفة ممولة من قطر بنشرها في موقعها، واتهم فيها المملكة بتدبير تفجيرات ١١ سبتمبر. إذ نشرت هذه الصحيفة هذه المقالة في يوم انعقاد القمة الإسلامية - الأميركية، في تحدٍ صريح وواضح للمملكة وجهودها الجبارة في الحرب ضد الإرهاب.
خروج #تصريح_تميم الذائع الصيت قبل يومين وما يصاحبه من مناقشات جادة داخل أميركا هذه الأيام حول دور قطر المشبوه في دعم «الإخوان المسلمين»، وعزيمة العالم المتجددة في مكافحة الإرهاب، وردود الأفعال السعودية والإماراتية الأخيرة لا تحمل أي أخبار سارة لقطر. الحديث الآخر في أميركا بجانب الحديث عن دعم قطر للجماعات الإرهابية، يتجه نحو نقل قاعدة العديد الأميركية إلى مكان مجاور. كل ذلك سيجبر حكومة قطر على الاستيقاظ من تلك الكوابيس الرديئة. أتوقع عودة قطر إلى رشدها ولكنها ستعود مصابة بالكثير من الذل والهوان والخسائر المادية المروعة في مقابل ما اقترفه مراهقوها من طموحات ومراهقات سياسية غير محسوبة الأخطار. لا أتوقع لهذه التطورات الأخيرة نهاية وشيكة، حتى لو اعترفت قطر بكل ما نسب إليها واعتذرت عنه. قطر ستواجه حتماً ما يشبه المحاكمة الدولية لتفتيت وتحليل كل ما أقدمت عليه في الأعوام الـ20 الماضية، وسيأتي هذا السيناريو متدرجاً وببطء لكنه جهد حاسم لن يتثاءب.
وكما أشرت سابقاً في مقالة أخرى عن التجارب العظيمة عندما تحدثت عن ضرورة وضع نجاح مؤسسات عملاقة كشركة «غوغل» و «أبل» وشركة «طيران الإمارات» ضمن مناهج جامعات البزنس في العالم بما حققته من نجاحات قياسية باهرة، لا بد من وضع تاريخ حكومة قطر المعاصرة وسلوكها في جامعات العلوم السياسية، ليتلقى طلاب السياسة دروساً في أسوأ الحكومات إدارياً وممارسة وتهوراً.
فهد الدغيثر- الحياة السعودية-