أما أن السمسار هي المهنة الأصلية للرجل، فهذه حقيقة يعرفها كل من تتبع تاريخه المهني.
وأما أن هذا شرق أوسط جديد، فيكفي أن نقرأ ما ذُكر غير مرة عن استراتيجية الرجل لتشكيل حلف عسكري سني (يضم إسرائيل) لتعرف كم تغير هذا الشرق الأوسط الذي كنا نعرفه.
في حضرة السمسار، التي أريد لها أن تكون مثله كرنفالية صاخبة، ومثلما اعتدنا مع أفيشات الشوارع وإعلانات التلفزيون، لا مكان للغة يحكمها المنطق (أو تعريفات متفق عليها) بل slogans هلامية جذابة، تدغدغ عواطف (أو بالأحرى مصالح) الجميع. فيستدعي السمسار لغة بوش القديمة عن أهل الخير وأهل الشر. وحول طاولة يجلس حولها السعوديون والمصريون والقطريون والأتراك، يتحدث الجميع عن «الإرهاب»؛ الكلمة السحرية التي لا تعريف محدد لها.
فمصر «الرسمية» التي تعتبر أن لا تعريف للإرهاب غير الإخوان المسلمين مدعوة للمشاركة في تحالف «عسكري» لمحاربة الإرهاب مع تركيا الراعية للإخوان المسلمين ومع المملكة التي أخذت «التجمع اليمني للإصلاح» في حسابات معركتها التي لا تنتهي مع الحوثيين.
لا مشكلة هناك، فكل ذلك عند المتحلقين حول طاولة السمسار مجرد تفاصيل، فكل منهم مشغول في الواقع بهواجسه، وقضيته «الداخلية جدا». أما الرجل فكل ما يعنيه أن يعود إلى عاصمته بصفقات مليارية، وبقدر من الجلبة والأضواء الملونة التي يأمل أن يوقف ضجيجها كرة الثلج التي تكبر يوما بعد يوم مهددة بقاءه في المكتب البيضاوي.
كعادته يجيد السمسار لعبة الورقات الثلاث. يعرف «سيكولوجيا نقطة الضعف»، فيلوح لهذا وذاك بما يسيل لعابه.
في حضرة السمسار، يحرص المهتمون بحصتهم في الصفقة على التودد إليه ومغازلته؛ أغنية على أنغام النشيد الوطني أو بوصفه بأنه «الرجل القادر على فعل المستحيل»(!)
يستهدف السمسار، الذي لم يخف يوما مواقفه العنصرية تجاه المسلمين أن يتكفل أعداؤه بأنفسهم. فيدعو إلى تحالف «سني» لمقاومة الإرهاب «الإسلامي»، لا جديد هناك. هي نفس المعادلة المجربة في بلادنا. إذ يذكر المصريون كيف استعانت أجهزة النظام يوما بالإسلاميين لضرب الإسلاميين، محافظة على الكرسي ومصالح الوريث. ويعرف السوريون، أو بعضهم على الأقل كيف «صنعت» مائة جماعة إسلامية ليحارب بعضها بعضا.
لا مكان للصراع العربي الإسرائيلي في عالم السمسار الجديد بل للصراعات البديلة التي تصبغ المنطقة وصراعاتها «وهوياتها» بطابع ديني طائفي. واقع جديد وخرائط جديدة للصراعات والحدود والهويات ينتفي معه منطق وصف «الدولة اليهودية الخالصة» بالعنصرية، حتى لو قامت بما يتطلبه ذلك من تطهير عرقي (ترانسفير). ففى عالم السمسار الترامبي الجديد لا مكان للمواطنة (ولا حتى للعولمة) بل تمايزات هوياتية دينية وطائفية. هذا كيان سني وهذا كيان شيعى. وعليه، فلا غرابة أن يكون لدينا «كيان يهودي خالص».
لم يكن غريبًا على «لاعب الثلاث ورقات» أن يخرج من بلاد الحرمين الشريفين مباشرة إلى حائط المبكى مرتديًا القلنسوة اليهودية، ومنها مباشرة إلى حاضرة الفاتيكان. فالدين، أو بالأحرى المشاعر الدينية كما كانت على مدى التاريخ أداة الساسة المفضلة لتجييش الناس، كانت أيضًا ودائمًا الورقة الأهم بين الورقات الثلاث.
في القدس، التي استقبله فيها نتنياهو «محتفلا بكونها عاصمة إسرائيل «الموحدة الأبدية» لم يكن السمسار بحاجة إلى أن يخف عنصريته. كما لم يخف أبعاد «صفقته» التي تؤسس باختصار لإنهاء «القضية» الفلسطينية، لأن «الكل عليه أن يتوحد في مواجهة إيران» عدو جديد إذن، وصراعات جديدة، وشرق أوسط جديد.
أما في الفاتيكان، فقد كان أن علمنا أن البابا لم يسمح لضيفه بأكثر من ثلاثين دقيقة. ورغم أن اللقاء كان مغلقا، إلا أن مواقف معلنة تجعلنا نتكهن بأن التاجر «العنصري» استمع من البابا «الليبرالي» إلى ما لم يستمع إليه من عشرات القادة المسلمين الذين «استدعوا» للقائه في الرياض. من قبيل «أن السلام لا يعرف التمييز أو العنصرية، وأن البشر متساوون، وأن بناء الجدران لا يجعل منك مسيحيا حقيقيا».
رغم أن الرجل لم يكن أبدا بحكمة أو حنكة صاحب «الأعمدة السبعة»، إلا أنه يحاول أن يلعب لعبة لورانس العرب القديمة ذاتها «صناعة العدو»، أو بالأحرى استغلال غطرسته وحماقته؛ عثمانية كانت أو فارسية لتمرير مشروعه الخاص، والحفاظ على مصالحه الخاصة؛ كيانا صهيونيا في خاصرة العرب (١٩١٧) أو تقنينا وتطبيعا لهذا الكيان، على الرغم من عنصريته المعلنة (٢٠١٧).
مهمة «أن يعمل الآخرون لمصلحتنا»، فضلا عن «لفت الانتباه» عن الخطر الإسرائيلي في المنطقة قديمة، عرفناها مع حلف بغداد (١٩٥٥).
التاريخ لا يعيد نفسه حرفيًا أبدًا. ولكن في صفحاته ما ربما علينا اليوم أن نعيد قراءته. في مايو ١٩٥٣ جاء جون فوستر دالاس (وزير الخارجية الأمريكي) إلى المنطقة في جولة حملت شعار «الدفاع عن الشرق الأوسط»، واضعا البذرة الأولى لما عرف بعد ذلك بحلف بغداد. يومها قال له الدكتور محمود فوزى (وزير الخارجية المصري) أن منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط، هي «مسألة غير محددة المعالم».
وأن المشكلة عادة ما تكمن في المسافة الواسعة ما بين «الأوراق الموقعة وطبيعة الأشياء». ويومها قال الرئيس نجيب لضيفه الأمريكي أن الخطر الشيوعي «خطر محتمل» أما الاحتلال الإنجليزي فهو «أمر قائم بالفعل». غادر دالاس القاهرة بخفي حنين، ولكنه نجح يومها في أن يجد في تناقضات المنطقة ما يسمح بتكوين «حلف بغداد» من العراق وتركيا وإيران وباكستان، برعاية بريطانية.
وربما كان من قبيل المفارقة أن في قصة الحلف القديم؛ بدايته ونهايته وموقف الدول العربية منه التفاصيل ذاتها من معادلات القوى والهواجس الحاكمة لأصحاب الكراسي والعروش.
كما أن من المفارقات أيضا أن المحاولات الفاشلة لتأسيس «الحلف الإسلامي» الأول في ستينيات القرن الماضي، كانت إيران / الشاه (حليفة إسرائيل الشرق أوسطية) ركنها الرئيس.
قرأت بعناية ما نشر من وثائق القمة، أو بالأحرى «القمم الثلاث». وأتفهم كيف كان الهاجس الإيراني حاضرا، بحكم السياقات والظروف، وبحكم الضيف والمضيف.
أتفهم أن يأتي ذكر إيران، وتدخلاتها «المقلقلة» للاستقرار في المنطقة، ولكن يصعب على أي مراقب محايد أن لا يستغرب أن حديث ترامب في القمة عن الإرهاب يذكر إيران (١١ مرة) في حين لا يأتي على ذكر تنظيم الدولة (داعش) غير خمس مرات.
لا جدال في أن لإيران، كما لغيرها طموحاتها الإقليمية «المقلقة»، كما تدخلاتها «اللا إنسانية» مساندة لنظام وحشي فى دمشق. ولكن الذي يغفل أن لإسرائيل (المحتلة لأرض عربية) طموحاتها المعلنة، وهيمنتها العسكرية المطلقة، وحروبها التي لم تنته (أكرر: لم تنته) مع العرب، يصبح كمن ينظر إلى الأمور بعين واحدة.
وأتفهم أيضا أن ما يحدث في سوريا على يد نظام وحشي مدعوم إيرانيا، لا يمكن أن نصفه إلا بـ «إرهاب دولة». ولكنى أتمنى أن لا يعني ذلك أن نغض الطرف هكذا عن شكل مماثل لـ«إرهاب دولة» ارتكبته وترتكبه إسرائيل كل يوم.
كما قد يصعب على من هم في جيلي أن يضيع لدى «العرب» هذا الخط الدقيق الفاصل بين «المقاومة» المشروعة للاحتلال، وهو ما عرفته أوروبا كلها مقاومة للنازي، وبين ذلك «الإرهاب» الذي يستهدف الأطفال والآمنين في مدارس أفغانستان وأسواق بغداد وكنائس القاهرة، أو على شواطئ نيس أو في مسارح مانشستر.
أتفهم أن يجتمع قادة العرب والمسلمين للتباحث فيما عليهم فعله في تلك المرحلة المضطربة من التاريخ، ولكني عجزت عن أن أجد مكانا منطقيا في مثل هذا الاجتماع لدونالد ترامب (الرئيس الأمريكي) فلا الولايات المتحدة دولة إسلامية، ولا الرجل زعيم مسلم. بل على العكس، فالرجل لم يخف يوما موقفه العنصري من الإسلام والمسلمين. فضلا عن أنه في غياب جدول أعمال معلن لاجتماع بمثل هذا المستوى تصبح علامات الاستفهام أكثر من مشروعة.
لم أتردد يوما في أن أنتقد علاقة «حماس» كحركة مقاومة بالإخوان المسلمين، وما تسببت به هذه العلاقة من نتائج كارثية للقضية الفلسطينية (العادلة). ولكني في الوقت ذاته لا يمكنني أن أتجاهل حقيقة أن لـ«مقاومة الاحتلال» أحكامها، واسألوا شارل ديجول ومقاومي «ستالينجراد».. ولهذا لم أرتح لما قام به ترامب في حضرة القادة العرب والمسلمين من وضع حماس مع القاعدة في جملة واحدة واصفا كليهما بالإرهاب.
وبعد..
فقمة الرياض (أو قمة القمم، كما أطلق عليها) تبرز بلا شك ما صارت إليه المكانة الإقليمية للمملكة السعودية. ولكن هذا لن يغير بحال حقائق ما وصلت إليه المنطقة، وما صارت إليه صراعاتها، أو بالأحرى «خرائطها الجديدة».
كما أن هذا لن يغير بحال حقيقة أن الذين، هنا وهناك يراهنون هكذا على ترامب حفاظا على كراسيهم، ينسون أنه نفسه قد لا يضمن كرسيه الذي يهتز يوميا تحت ضغط التحقيقات الصحفية والقانونية. كما نسوا أن المراهنة على السماسرة مثل الكتابة على الماء مراهنة على المجهول.
إذ ما حصل لا يعدو أن الرجل أخفى مواقفه الحقيقية (المضمرة) والتي سبق أن أفصحت عنها تغريداته وخطاباته الجماهيرية المرتجلة تحت الورقة السميكة التي أعدها مساعدوه بعناية لخطابه في قمة الرياض. ولكنه، من ناحية أخرى كان واضحا «وفاضحا» في تعليقه التلقائي بعد أن وقع صفقات الأسلحة والاستثمارات:
Hundreds of billions of dollars of investments into the United States and jobs، jobs، jobs
وهو التصريح الذي نقلته كاميرات التلفزيون، ثم كرره في تغريدته بعد ذلك.
خلاصة ما جرى إذن أن السمسار عاد بالمليارات والوظائف إلى بلاده «الآمنة» البعيدة، وترك وراءه خرائط صراع جديدة، وشرق أوسط جديد، ومسلمين يحاربون مسلمين … تقبل الله صيامكم.
أيمن الصياد- الشروق المصرية-