مثّل صعود الملك «سلمان بن عبد العزيز» في كانون ثان/يناير 2015 صفحة جديدة ليس فقط في العلاقات السعودية القطرية، بل وفي التوقعات حول دور المملكة الإقليمي خاصة وأن العاهل السعودي الجديد انتهج سياسة أكثر جرأة فيما يتعلق بمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، وبدأ عملية عسكرية مفاجئة في اليمن. كذلك، حمل صعود جيل أصغر من أمراء الأسرة الحاكمة (محمد بن نايف كولي للعهد، ومحمد بن سلمان كنائب له) انطباعا أن الرياض تخطط لإرساء مكانتها كقيادة إقليمية بتسليم مقاليد الحكم لأمراء أكثر طموحا وجرأة مقارنة بالسياسة البطيئة المحافظة التي ميزت سنوات حكم الراحل «عبد الله بن عبد العزيز» وتراجعت معها فاعلية الدور السعودي الإقليمي.
مع الوقت، بدا واضحا أن الأمور تسير في اتجاه آخر. لم تكن تقديرات المملكة لمعركة اليمن دقيقة، وظهر أن عاصفة الحزم قد لا تحمل للقيادة الجديدة المجد الذي راهنت عليه. ستؤدي هذه الحقيقة مع طول أمد المعارك إلى نتيجة غير متوقعة: الإمارات ستتمكن من تحويل «عاصفة الحزم» إلى معركتها المظفرة للسيطرة على جنوب اليمن وباب المندب وفق مخطط مدروس وشديد المراوغة.
ألقت أبوظبي بثقلها العسكري في معارك الجنوب، وقدمت نفسها كقوة حليفة يعتمد عليها ليس فقط للسعودية في حربها على الحوثيين، ولكن، وربما هذا هو الأهم، قدمت نفسها للولايات المتحدة كشريك موثوق في مواجهة تنظيم القاعدة في اليمن. تحت عنوان الحرب على القاعدة والإرهاب، ستقوم الإمارات عبر جهاز أمني يتبعها مباشرة بالتخلص من الدعاة وعلماء الدين المحليين سواء التابعين للتجمع اليمني للإصلاح، أو حتى السلفيين التقليديين الموالين للمؤسسة الدينية السعودية. بعض هؤلاء تم تصفيته، وبعضهم قضى تحت التعذيب، فيما الآخرين اعتقلوا واستجوبوا في مقرات أمنية خاصة تابعة للجهاز الأمني الذي تشرف عليه أبوظبي.
بعد حوالي عامين من بدء «عاصفة الحزم»، استطاع التحالف دحر الحوثيين في مناطق عديدة، ومازال مستمرا في التقدم البطيء. لكنّ النتيجة الأبرز هي سيطرة الإمارات على الجنوب، حتى باتت قادرة على تحدي ليس فقط قرارات الرئيس اليمني «عبد ربه منصور هادي»، بل وحتى الأجندة السعودية في اليمن إذا تعارضت مع مصالح أبوظبي. فبينما مازال موقف الرياض واضحا في دعم وحدة اليمن ورفض أجندة التقسيم الجنوبية، تقوم أبوظبي بصورة معلنة بدعم وتأييد إنفصاليي الجنوب دون أن يصدر عن المملكة موقف رادع. كما أنها تعمل بخطى حثيثة وثابتة على إحكام سيطرتها المنفردة - دون السعودية - على مضيق باب المندب من خلال تواجد عسكري وأمني واقتصادي متنامي على جانبي المضيق: عدن، سقطرى، وميون من جانب اليمن، ومينائي عصب في إريتريا وبربرة في الصومال من الجانب الإفريقي. (طالع المزيد: أسرار الارتباك والصمت السعودي في مواجهة الانقلاب الإماراتي في اليمن)
يرى متابعون للشأن الخليجي أن العلاقة المعقدة بين الإمارات والسعودية في اليمن نتجت عن حاجة المملكة للدور العسكري الإماراتي، وهو ما يجعل الرياض تتغاضى عن بعض المواقف الإماراتية المتعارضة مع رغبات السعودية. لكنّ الحقيقة، أن أبوظبي تمكنت من التسلل إلى ثغرة رئيسية في هيكل صناعة القرار السعودي، وباتت من خلالها قادرة على إخضاع قرارات وسياسات المملكة، وتوظيف ذلك في تحقيق مصالح أبوظبي حتى وإن كانت ضد أجندة السعودية. هذه الثغرة ليست إلا الأمير «محمد بن سلمان» شخصيا، ولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع.
الثغرة: طموح بلا مؤهلات أو خبرات
رغم حداثة سنه، وافتقاده لأي خبرات سابقة، لا يبدو أن الأمير الشاب يرغب في انتظار دوره المحدد في سلم الخلافة كي يجلس على عرش المملكة. ومن ثم بات مشغولا بهدف واحد طوال تحركاته خلال العامين الماضيين، وهو ضمان تجاوز ولي العهد، الأمير «محمد بن نايف»، في حياة الملك «سلمان» خوفا من الإطاحة به كما حدث مع عمه الأمير «مقرن بن عبد العزيز».
في سبيل تحقيق ذلك، سيكون على «بن سلمان» تقديم نفسه كأمير قادر على حكم المملكة. لكنه اكتشف أنها مهمة ليست سهلة. فمن ناحية لم تقدمه حرب اليمن كقائد عسكري مظفر، كما لم تجعل منه رؤية المملكة رجل الدولة القادر على قيادة تحول اقتصادي تنموي يحسب له. يحتاج هذا إلى وقت طويل لا يملكه هو، فضلا عن أن خطته ليست بالضرورة مضمونة النجاح بصورة تجعله جديرا بالحكم. لذا سيكون عليه أن يبحث عن حلفاء خارجيين يمكنهم دعم صعوده للسلطة ثم دعم حكمه فيما بعد. لا يمكن أن يكون هذا الحليف سوى واشنطن، حليف المملكة الاستراتيجي منذ منتصف القرن الماضي. يدرك «بن سلمان» أن ولي العهد السعودي هو أكثر أمراء السعودية حاليا تمتعا بثقة واشنطن. ومن ثم ليس من السهل إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن «بن نايف».
هنا يأتي دور الإمارات، وهكذا تكونت الثغرة التي رآها «محمد بن زايد»، ومن ثم عمل على الاستفادة منها واستغلالها.
قدم «بن زايد» لـ«بن سلمان» دعما واسعا عبر جهود اللوبي الإماراتي في الولايات المتحدة للترويج له باعتباره الحليف الأنسب لواشنطن في مواجهة التطرف والإرهاب. وفي المقابل، لم يتردد «بن سلمان» في قمع رجال الدين في المملكة الذي استهجنوا تقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف وتزايد أنشطة هيئة الترفيه. وهي خطوات يعتبرها «بن سلمان» ضرورية لإثبات انفتاحه على الثقافة الغربية، وجديته في التصدي لمن تعتبرهم واشنطن متطرفين حتى لو كانوا مقربين من المؤسسة الدينية الرسمية.
وعقب تسلم الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» مقاليد الحكم في البيت الأبيض، عمل اللوبي الإماراتي جنبا إلى جنب مع حليفه اللوبي الصهيوني لترتيب زيارة الأمير «محمد بن سلمان» إلى واشنطن ليقدم أوراق اعتماده للرئيس الجديد. لكنه سيكون مضطرا لدفع المقابل المبدئي وهو إنهاء أزمة العلاقات مع القاهرة التي أثارت قلق دولة الاحتلال الإسرائيلي كونها زادت من مشكلات حليفها الرئيسي «عبد الفتاح السيسي». وبالفعل عادت «أرامكو» لضخ النفط واستُقبل «السيسي» في الرياض رغم أن ملف الجزيرتين لم يحسم، كما أن حملة الهجوم والإساءة للملك «سلمان» والشعب السعودي في الإعلام المصري لم يتم الاعتذار عنها.
إزاحة قطر
تطورت الأمور سريعا عقب عودة «بن سلمان» من واشنطن. بلغ الصراع بين النفوذ الإماراتي ونفوذ الرئيس اليمني ذروته في الجنوب ذروته. وعقب قرارات للرئيس «هادي» أطاحت بوكلاء الإمارات المقربين قرر «محمد بن زايد» القيام باللعبة التي يجيدها: انقلاب محلي على سلطة «هادي» مدعوم عسكريا وماليا وإعلاميا من أبوظبي. (طالع المزيد: بدعم إماراتي.. «الزبيدي» ينقلب على «هادي» ويسمي مجلسا لإدارة جنوب اليمن)
فيما يبدو قدرت الإمارات أن المملكة لن تتدخل كعادتها، وأنها ستغض الطرف عن أجندة الإمارات الخاصة في جنوب اليمن. لكن تحول الانقلاب إلى دعوة واضحة للانفصال كان أكبر من قدرة «محمد بن سلمان» على احتواء موقف العاهل السعودي، ومن ثم انحازت السعودية إلى وحدة اليمن، ودعم قرارات «هادي»، فيما فضحت الخطوة بصورة متزايدة مخططات الإمارات ومصالحها المستقلة عن السعودية والتحالف العربي بصورة عامة في اليمن.
حمّلت الإمارات دولة قطر وإعلامها ممثلا في فضائية الجزيرة، قسطا كبيرا من المسؤولية عن إجهاض انقلاب عدن. ويبدو أن هيمنة «بن زايد» على عقل ومصالح «بن سلمان» مكنته من إقناع الأخير أن قطر تنفذ أجندة خاصة في اليمن تهدف إلى التمكين لحزب الإصلاح، أو أنها باتت تؤثر على الرئيس اليمني أكثر مما ينبغي. وعلى الرغم من تماهي السياسة القطرية بصورة تامة مع السعودية منذ صعود الملك «سلمان»، بصورة أضرت بدور قطر الإقليمي أكثر مما أفادته، فإن «بن سلمان» بات مؤهلا لقبول رواية أبوظبي. ليس ذلك فحسب، بل أصبح جاهزا لتنفيذ ما يخطط له «محمد بن زايد» حتى وإن جاء على حساب أجندة المملكة نفسها في اليمن والتي تدعمها قطر أكثر من أي دولة أخرى.
لم يكن من السهل على أبوظبي التصعيد مجددا ضد الدوحة بينما الأخيرة منسجمة مع مواقف المملكة بصورة لافتة. ولم يكن ثمة مبرر في الوقت الراهن - رغم تعارض الأجندات العميق والمستمر بن الدوحة وأبوظبي - لشن مثل هذا الهجوم الواسع. لكن الآن، أصبح بإمكان «بن زايد» توظيف نفوذه على «بن سلمان» من أجل شن هجوم إعلامي على الدوحة مستخدما ثقل الرياض السياسي والإعلامي. وبتعليمات مركزية لا يمكن أن تصدر إلا عن «بن سلمان»، وتُنفذ من خلال وزير الإعلام «عواد بن صالح العواد» تصدت وسائل إعلام سعودية، وما زالت، بصورة مكثفة لحملة هجوم على الدوحة غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي منذ استقلالها.
إن كان من غير الواضح حتى الآن هل يستهدف هذا المخطط المدروس انقلابا في الدوحة أم انقلابا في الرياض، أم كلاهما؛ فالأكيد أنه أكبر من مجرد حجب مواقع إلكترونية أو محاولة لترويض قناة فضائية. كما أنه يمثل علامة حاسمة على المدى العميق الذي وصلت إليه تبعية القرار السياسي في الرياض لما تمليه أبوظبي.
الخليج الجديد-