القلة الضئيلة جدا من العرب والمسلمين هم من استبشر بزيارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى المنطقة الأسبوع الماضي لأسباب عديدة:
أولها أن خطابه خلال الحملة الانتخابية وبعد إعلان نتائجها لم يكن وديا نحو المسلمين على أحسن تقدير، بل كانت عدائية بشكل عام.
ثانيها: إصداره قرارا بمنع مواطني 6 دول عربية ومسلمة من دخول الولايات المتحدة، وما يزال القرار قائما مع تعديلات طفيفة على إجراءات التطبيق.
ثالثها: إعلانه العزم على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وما يمثله ذلك القرار من تحد ليس لمشاعر المسلمين فحسب بل للقرارات الدولية التي تعتبر القدس مدينة محتلة.
رابعها: استهداف الإسلام بالنقد اللاذع وربطه بالإرهاب. لذلك عندما قرر زيارة الرياض وعقده قمتين، الأولى مع زعماء مجلس التعاون الخليجي والثانية مع زعماء الدول العربية والإسلامية، كان هناك تشاؤم كبير لدى قطاعات واسعة من أبناء الأمة. هذا الموقف لم يعكس في شكل تظاهرات أو احتجاجات لأن هذه الظاهرة تكاد تختفي من الشارع العربي بعد القمع الرهيب لثورات الربيع العربي قبل ستة أعوام.
وعلى عكس خطاب الرئيس السابق، باراك أوباما، في القاهرة قبل 8 أعوام، جاءت تصريحات ترامب لتؤكد تراجع الخطاب الأمريكي في مجالات الحرية وحقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. ومن أهم نتائج تلك الزيارة، بالإضافة للصفقات العسكرية العملاقة مع المملكة العربية السعودية:
أولها حدوث حالة من التصدع في العلاقات بين أمريكا وبريطانيا نتيجة استحواذ الأولى على الصفقات العسكرية مع السعودية التي كانت بريطانيا تعول على نيل حصة منها.
ثانيها: شعور بعض الحكومات بحرية التصرف في التعاطي مع معارضيها بدون الخشية من مواقف اعتراضية من واشنطن، كما كان في عهد أوباما.
أما أولى النتائج العملية لتلك الزيارة فقد تبلورت في البحرين التي تعيش حالة من التوتر السياسي والأمني بشكل متصاعد منذ أكثر من 6 أعوام.
ورغم تدخل ستة جيوش أجنبية لاحتواء الوضع فقد استمرت الأزمة وهيمن على البلاد توازن قلق بين القوة الأمنية والعسكرية المفرطة التي لدى الحكومة والحماس الشعبي لمواصلة مشوار «الثورة» بالاحتجاجات التي لم تتوقف يوما منذ عام 2011. هذا التوازن لا يمكن التعويل عليه خصوصا مع تغير الظروف والتحالفات.
وثمة حقائق ساهمت في الحفاظ على ذلك الحراك طوال هذه الفترة بينما تلاشت ثورات الدول الأخرى:
أولها: إصرار الجبهة المعارضة على الالتزام بسلمية الحراك وعدم الانجرار للعنف،
ثانيها: وجود تاريخ نضالي طويل لدى شعب البحرين.
ثالثها: طبيعة العلاقة المتأرجحة بين العائلة الخليفية الحاكمة وشعب البحرين الاصلي (بشيعته وسنته) وهي علاقة لم تستقر يوما بل بقيت مضطربة طوال الحقب الماضية، فلا يمر عقد من الزمن إلا وتتجدد الاضطرابات بحثا عن سياسات تناسب الوضع وتعكس شيئا من التطور.
تصريحات ترامب ولقاءاته الخاصة مع بعض الزعماء ومنهم ملك البحرين، وفرت للحكم شعورا بأمن نسبي لم يتوفر خلال رئاسة باراك اوباما.
فقد كانت لتصريحاته في بداية الحراك بضرورة السماح بالاحتجاج السلمي، وتجميده صفقات سلاح لتزويد البحرين بأنواع متطورة من الاسلحة اثرها في تخفيف وتيرة القمع. وبرغم ممارسة ضغوط دبلوماسية واسعة على الادارة الامريكية فقد التزمت بالسيطرة على بيع السلاح للبحرين. ولم تفلح جهود شركات العلاقات العامة في تغيير تلك السياسة. وما ان وصل دونالد ترامب الى البيت الابيض حتى بدأ التغير يطرأ على تلك السياسة التي دفعت ترامب لمخاطبة الحكومات العربية بانه لن يلتفت الى انماط حكمها واساليب تعاملها مع مواطنيها.
حكومة البحرين شعرت بوجود موافقة ضمنية على اجراءاتها الامنية تجاه المعارضة، ولم تخش ردة فعل واضحة وقوية وعنيفة من واشنطن.
فأقدمت في الأيام الاخيرة على اقتحام منزل الرمز الديني الأكبر في البلاد، والسياسي المخضرم، الشيخ عيسى أحمد قاسم، في خطوة غير مسبوقة.
فالرجل يعتبر من دعامات النظام السياسي الذي تبلور بعد الانسحاب البريطاني من الجزر عام 1971. وكان عضوا منتخبا بالمجلس التأسيسي الذي وضع دستور البلاد في 1973 وأسس مبادئ الدولة الحديثة القصيرة العمر في البحرين.
وكان وجوده في ذلك المجلس فاعلا، فقد استطاع من خلال المناورات مع الحكومة إقرار مادة دستورية تنص على أن «البحرين دولة عربية اسلامية» مستفيدا من حساسية الحكومة تجاه المد اليساري آنذاك.
وعام 1973 انتخب عضوا بالمجلس الوطني الذي حلته الحكومة عام 1975 بعد تعليق العمل بالمواد الدستورية التي تنظم الممارسة الانتخابية. وعاد بعد ذلك للنشاط الديني ضمن جمعية التوعية الإسلامية التي تعرضت هي الأخرى للغلق الرسمي عام 1984.
وأعيد فتحها في عام 2001 ثم أغلقت مع جمعية الوفاق في شهر يونيو/حزيران من العام الماضي.
ومع اختفاء كافة العناصر المعارضة إما بالسجن أو الإبعاد، أصبح الشيخ قاسم رمزا للمعارضة برغم عدم ممارسته دورا ميدانيا، والتزامه الصمت في اغلب الاحيان، خصوصا بعد القرار الرسمي بحل جمعية الوفاق الوطني الاسلامية التي تعتبر ممثلة للتيار الاسلامي الشيعي.
ولعل المؤشر الأكبر لاستهداف الرجل الذي يعتبر الأب الروحي لذلك التيار، جاء في 20 يونيو/حزيران الماضي، عندما صدر قرار رسمي بسحب جنسية الشيخ عيسى قاسم، بدون أن توجه له أية تهمة سياسية أو يحاكم. وهنا استشعر المنتمون للتيار خطر الموقف فتوجهوا إلى منزله وخيموا في محيطه طوال العام الأخير، لحمايته ومحاولة منع ترحيله. الرجل الذي يقارب الثمانين من العمر تعاطى مع هذه التطورات بهدوء، وبقي محاصرا بمنزله بانتظار ما تخبئه الأقدار.
وبدأ النظام محاكمته غيابيا بعد رفضه الحضور، ووجه له تهمة جمع أموال الحقوق الشرعية بدون ترخيص، ثم قام بمصادرتها واعتقال العديد من علماء الدين الذين رفضوا التخلي عن الشيخ قاسم. وبقي الوضع هادئا برغم فرض حصار مشددعلى منطقة الدراز، مسقط رأسه، ، حيث بقي الشيخ بمنزله محاطا بمريديه، بينما النظام يستعد للقيام بالفصل الأخير من المواجهة مع مكونات الحراك الشعبي ومرجعه الروحي.
بعد قمة الرياض شعر الكثيرون أن الحاكم حصل على الضوء الأخضر لحسم الموقف باستهداف الشيخ قاسم وكسر التجمع حول منزله. وكان قرارا دمويا أدى لمقتل العديد من الشباب المعتصمين عند المنزل.
وأصبح الشيخ تحت رحمة أجهزة الأمن والمخابرات التي فرضت هيمنتها على المنزل ومنعت الوصول الى الشيخ. ومع ردود الفعل الشعبية التي تؤكد استمرار المعارضة لنظام الحكم وتطالب بالتغيير، فمن المتوقع حدوث تصعيد في المواجهة بين الطرفين.
الأمر الأكثر رجحانا تصاعد وتيرة التوتر في البحرين في الأسابيع والشهور المقبلة. فالبلاد التي شهدت على مدى مائة عام حراكات وانتفاضات تطالب بحقوق سياسية لم تعان من سياسات قاسية بدموية مفرطة كما يحدث الآن.
وشعب البحرين معروف بالتسامح والتعايش السلمي والأخوي بين مكوناته، وقد أفشل المشروع الطائفي عندما سعت أطراف خارجية لفرضه في السنوات الأخيرة استكمالا لمشروع تهشيم جسد الأمة. وثمة من يعتقد أن شعب البحرين يدفع ضريبة الصراع الإقليمي على النفوذ بين إيران والسعودية.
وقد يكون في ذلك شيء من الصحة ولكن تاريخ الحركة الوطنية في البحرين يؤكد العمق التاريخي لها ويكشف ظاهرة التسامح الأيديولوجي والسياسي بين أطياف المعارضة.
د. سعيد الشهابي- القدس العربي-