كانت وما زالت قطر - بشهامة أهلها وكرمهم ونبلهم- اللؤلؤة في تاج الخليج ولا تظهر اللؤلؤة إلا في مكانها. فلن يقدر شهامة القطريين ومروءتهم أحد كأهل الخليج، وليس الغرب والشرق.
وفد أشار بعض الكتاب إلى خلافات قديمة بين السعودية وقطر تعود إلى حرب الخليج، وهذا في رأيي لا علاقة له بالنزاع القائم حاليًا. فإن كانت هناك خلافات بين السعودية وقطر قبل عام 1995م فإنها لا تتجاوز الخلافات الطبيعية بين الجيران والأشقاء ولها أسبابها المعقولة والمفهومة. أما ما بعد 1995م، فقد افتعلت قطر الحبيبة نزاعات مع السعودية ليس لها أسباب معقولة. واعتقد أن أدق ما يوصف بأنه تحرشات قطرية بالسعودية. وأسبابها ما هي إلا لإثبات الاستقلالية والقدرة والندّية. ولذا سميته بالنزاع النفسي.
فقد كانت قطر إلى عام 1995 تحتذي بسياسات السعودية الداخلية والخارجية صغيرها وكبيرها، حتى لون التاكسي وسيارات الشرطة والمرور، فضلاً عن القضاء والفتوى والمذهب والتحالفات الخارجية. وقد كان هذا بخيار منها لا فرضًا عليها.
وبعد ميلاد قطر الشابة لم تستطع قطر نفسيًا تجاوز تلك الفترة والمرحلة السياسية المؤقتة التي تبعتها. وهناك من الأبناء من يحب الاستقلال عن آبائهم وعوائلهم، ويلاحظ هذا بكثرة في العوائل التجارية مثلاً. فمن يحمل هذه النزعة من الأبناء، قد يكون بارًا وقد يكون عاقًا. فالابن البار يثبت استقلاليته عن عائلته أو أبيه بتحقيق نجاحات بعيدة عن إيذاء عائلته ومنافستهم، لا تزيده وعائلته إلا شرفًا وقدرًا. والابن العاق أو المعقد نفسيًا يعتقد أن الاستقلالية لا تكون إلا بأذية أهله ومنافستهم والتخريب عليهم، وهذا عادة ما يعود عقوقه وعقده النفسية عليه.
فكل ما فعلته وتفعله قطر لا تتجاوز خلفياته وأسبابه حول إثباتية قطر لجيرانها بإمكانيتها الاعتماد على نفسها، بل ولمعارضتها للسعودية ومشاكستها لها خليجيًا وإقليميًا ودوليًا. هذا كله على الرغم من أن السعودية لم تفرض نفسها على قطر قديمًا، بل هي من اختارت الاقتداء بها. وشاهد ذلك، وحسب ما أذيع في مذكرات حرب الخليج الثانية، فإنه بعد إخراج السعودية للقوات الأمريكية، قامت قطر بتقديم عرضها السخي لأمريكا بإقامة قواعدها على لأراضي القطرية. ولكن أمريكا لم تقبل بعرض قطر السخي إلا بعد استئذان السعودية، وأن الرئيس كلينتون قد طلب التأكَّد من أن هذا لن يغضب السعودية. وقد كان جواب السعودية صريحًا وواضحًا بأن قطر دولة مستقلة ولها سيادتها الكاملة على أراضيها.
ومن بعد ذلك بدأت قطر حملات المشاكسة التي وصلت أحيانًا للتهور. فقطر لا تريد إخلال الأمن لا بالسعودية ولا بدول الخليج، ولكن ما تفعله قد يؤدي إلى ذلك، إذا لم يُؤخذ بجدية من الجانب السعودي والخليجي. والتعاند عادة ما يبدأ بسيطًا ثم يزداد، وهكذا حصل مع قطر. فتوسعت قطر في خصوماتها لجيرانها حتى أصبحت معزولة. فعلاقاتها وتجاراتها ومودتها وهواها قد أصبح مع العالم الخارجي البعيد عنها. فأصبحت معزولة عن جيرانها، أشبه ما تكون بحالة عزلة إسرائيل بين العرب.
والمهم هنا، أنني أعتقد أن قطر لم تستثن احتمالية أن تؤدي تحرشاتها إلى إخلال أمن جيرانها، ولكن كأن لسان حالها يقول أبو سفيان في قتلى أحد: «في القوم مُثلة لم أمر بها ولم تسؤني». ولعل صغر مساحة قطر وقلة عدد السكان مع الغنى الواسع، قد غرهم بأنه حصانة قطر من اختلال الأمن عندها، وهذا يفسر عدم مبالاة قطر باحتمالية إخلال الأمن عند جيرانها بسبب أفعالها.
ولكن هل تنبه المستشارون السياسيون لدى قطر بأن اتكاء قطر ومراهنتها على سهولة إدارة الداخل عندها - بسبب قلة عددهم وصغر مساحتهم وكثرة أموالهم- هو سيف ذو حدين تستطيع الدول الخليجية قلب حده لو اتبعت نفس أساليب قطر التحرشية. فالسهام التي ترميها قطر على السعودية - منذ عام 1995م - تضيع في سعة السعودية وأرضها الواسعة. ولكن لو رمت السعودية بسهم واحد في تجاه قطر فلن يضيع، وسيكون السهم الأول والأخير. ولعل هذا من أهم أسباب صبر السعودية على قطر.
فمتى تتوقف قطر عن مشاغبة أهلها المحبين لها، وتركز جهودها وأموالها لتكون اللؤلؤة المضيئة لهم والمثال الذي يُحتذى به لا المثال الذي يُحذر منه. ولعل في دبي شاهد هنا. فلا ينكر أحد أن دبي كانت المُلهم لانطلاقة التطور في الخليج. فمَثَلها ومَثل قطر فيما سيكتبه التاريخ عنهما إن لم تتدارك قطر مواقفها، كمثل ما كتبه التاريخ عن سنغافورة وليبيا القذافي.
د. حمزة السالم- الجزيرة السعودية-