انتهت التوترات التي طال أمدها بين دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تفاقمت خلال الأسبوعين الماضيين، بتعليق عدة حكومات عربية لعلاقاتها مع قطر. وللأزمة الحالية جذورها في عدة مسارات للاختلاف بين دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك مواقفها تجاه إيران، ودعم الإسلاميين السياسيين، ودرجة التنافس الاقتصادي والاستراتيجي بينها.
وأعلنت السعودية ومصر والإمارات والبحرين في الخامس من يونيو/حزيران الماضي تعليق العلاقات الدبلوماسية مع قطر، التي طالما أدانتها تلك الدول لعلاقتها بإيران ودعمها للجماعات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين. وقد أعقب ذلك إعلان مماثل من حكومة مجلس النواب في طبرق في ليبيا، والتي لها علاقاتٍ وثيقة مع الإمارات ومصر، والحكومة اليمنية المدعومة من السعودية بقيادة الرئيس «عبد ربه منصور هادي»، ودول المحيط الهندي الجزرية موريشيوس والمالديف، والتي لها علاقات وثيقة مع الحكومتين السعودية والإماراتية.
وقالت الدول أنّها ستوقف التجارة البحرية مع قطر أيضًا. ووفقًا للصحف، أعاقت السعودية، البلد الوحيد الذي يقع على الحدود مع قطر، أيضًا النقل البري عبر هذه الحدود. وقد ألغت عدة شركات طيران إقليمية مثل طيران الإمارات والخليج البحرينية وفلاي دبي وطيران الاتحاد في أبوظبي الرحلات إلى قطر، في حين ألغت الخطوط الجوية القطرية رحلاتها إلى السعودية. وبالمثل، أصبح المجال الجوي لدول مجلس التعاون الخليجي غير مسموح به للرحلات القطرية. وأمهلت الدول التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة المواطنين القطريين لمدة أسبوعين لمغادرتها، في حين تم منح الموظفين الدبلوماسيين حتى 7 يونيو/حزيران لمغادرة البلاد. وبسبب الاضطرابات الدبلوماسية، تمت تعليق نشاط قطر في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، على الرغم من أنّ قطر لم تقم سوى بدورٍ رمزيٍ في تلك العملية.
وأدانت الدول في إعلانها عن التعليق الدبلوماسي، دعم دولة قطر المزعوم للمجموعات التي يعتبرونها إرهابية، مثل جماعة الإخوان المسلمين وحركة طالبان وحماس، وغيرهم، بما في ذلك تنظيم القاعدة. وتستضيف قطر عددًا كبيرًا من ممثلي الجماعات مثل حماس أو حركة طالبان، وهو ما وضع الدوحة في منطقة محايدة تسمح لها بإجراء المفاوضات. وقد حظي استعداد قطر لاستضافة هذه المنظمات، بطبيعة الحال، بالرفض في الماضي. كما اتهمت السعودية قطر بدعم المسلحين الشيعة في شرق السعودية والبحرين.
وفى الوقت نفسه، ظهرت تقارير مفادها أنّه، وبعد أن طالبتهم قطر بمغادرة البلاد، فسوف ينتقل عددٌ من قادة حماس إلى تركيا وماليزيا ولبنان. ويعد هذا تحركًا من جانب قطر مماثلًا لمحاولة نزع فتيل أزمة مماثلة عام 2014. غير أنه تم نفي هذه الأنباء، في حين لم تبد قطر أي استعدادٍ لتخفيف دعمها لجماعة الإخوان المسلمين أو حركة طالبان أو حماس. وقد ساهم دعم هذه الجماعات في توسيع شرعية قطر الإقليمية ومنح الدوحة بعض النفوذ في الولايات المتحدة والدول الأخرى التي تسعى إلى السيطرة على سلوك الجماعات الإسلامية.
شرارة الأزمة
وتعود أسباب التصعيد الحالي بين الدول العربية وقطر إلى تصريحات مزعومة لأمير قطر الشيخ «تميم بن حمد آل ثاني»، والتي أعرب فيها عن دعم إيران وحماس والإخوان المسلمين في خطاب التخرج العسكري في 23 مايو/أيار. وأثارت التصريحات، التي نفت قطر صحتها وقالت إنها نجمت عن عملية اختراق، دول الخليج الأخرى التي بدأت بحظر وسائل الإعلام القطرية، بما في ذلك قناة الجزيرة.
ثم بدأت موجة من الاتهامات عبر وسائل الإعلام من كلا الجانبين. وأظهرت تسريبات مجموعة «القرصنة» التي تطلق على نفسها اسم «جلوبالكس» رسائل بريد إلكتروني تخص «يوسف العتيبة»، سفير دولة الإمارات لدى الولايات المتحدة، وجود علاقاتٍ قوية بينه وبين مركز أبحاث المحافظين الجدد المؤيد لـ (إسرائيل)، بالإضافة إلى تسريبات خاصة تتعلق بالسعودية والإمارات. وقد يكون هذا قد أدى إلى تحركٍ كاملٍ من قبل الرياض وأبوظبي للضغط على الدوحة من خلال تصويرها بشكلٍ سيئ.
ويهدف إغلاق الحدود البرية ووقف الحركة الجوية والبحرية إلى ممارسة ضغوطٍ اقتصادية على قطر. ويتم شحن ما بين 40 و50% من واردات الدوحة الغذائية، بما في ذلك معظم منتجات الألبان الطازجة والخضار والفواكه والحبوب المصنعة، برًا من السعودية. ولكن عند النظر في الواردات الإجمالية، لن يكون للحصار تأثير كبير على قطر، التي لا تحصل سوى على 8.8% من السلع المستوردة (بما في ذلك مواد البناء) من الإمارات، و4.3% فقط من السعودية. ومن شأن الحظر على السفر جوًا أن يثير المزيد من المشاكل على الخطوط الجوية القطرية المتعثرة، والتي فقدت على الفور حقها في خدمة 19 وجهة في البلدان التي أصدرت الحظر. وكانت شركة الطيران المرتبطة بالدولة تتعامل بالفعل مع خسارة قدرها 38% من قيمة علامتها التجارية خلال العام الماضي (تبلغ قيمتها الآن 2.2 مليار دولار). وفي حالة استمرار الحصار على التجارة والسفر، قد تشهد قطر تضخمًا في أسعار الغذاء، على الرغم من أنّ المعونة الغذائية التي تعهدت بها إيران يمكن أن تخفف من حدة ذلك. وفي قطاعات الخدمات المصرفية والمالية ذات التنافسية العالية، يمكن أن تقوض العقوبات الاقتصادية المطولة قدرة قطر التنافسية مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
وقد تشعر بعض وسائل الإعلام القطرية بضغطٍ أكثر حدة من قبل المملكة والإمارات أيضًا. وقد أوقف السعوديون بالفعل تصاريح قناة الجزيرة التي تتخذ من الدوحة مقرًا لها، وستشعر قطر بالضغط مع إغلاق قنواتٍ أخرى أصغر مثل العربي الجديد. وقد أتاحت وسائل الإعلام هذه، والتي تتعارض بشكلٍ روتيني مع مواقف دول مجلس التعاون الخليجي ذات التأثير، قدرة قطر على التأثير بشكلٍ كبير على المناقشات السياسية.
أصداء الماضي
يمكن رسم أوجه الشبه بين أحداث الأسبوع الماضي وصراع عام 2014 الذي فرضته الإمارات والسعودية على قطر. وقد نشأ هذا الصراع مع استمرار احتضان الدوحة للجماعات الإسلامية الإقليمية التي تعتبرها الرياض وأبوظبي تهديدًا، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين. وينبع الصراعان من نفس الجذر، حيث تفتقر قطر للتنوع الديموغرافي والطائفي الموجود في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، وهو ما يسمح للدوحة بدعم الجماعات الإقليمية التي تساعدها على توسيع نفوذها دون إثارة المتاعب في الداخل. ومع ذلك، فإنّ التخفيضات الدبلوماسية والتجارية في النزاع الحالي لم يسبق لها مثيل.
ومع تآكل علاقاتها مع جيرانها المباشرين، يمكن للدوحة أن تتحول إلى إيران وتركيا والعراق طلبًا للمساعدة. وربما يؤكد اللقاء الثلاثي في بغداد بين تركيا وإيران والعراق، والذي دعا له رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، هذا الاحتمال. وقد أقامت قطر وتركيا علاقاتٍ وثيقةٍ ومتنامية، والتقى رئيس البرلمان السني القوي في العراق مع مسؤولين قطريين في 4 يونيو/حزيران، وهي علامة على العلاقة الإيجابية بين البلدين. وفي حين أنّ أيًا من هذه البلدان لا يمكن لها أن تحل محل الدعم الذي حظيت به قطر من شبكة دول مجلس التعاون الخليجي أو من الولايات المتحدة لعقود، فإنّ جهود السعودية لمعاقبة قطر يمكن أن تحفز التعاون الأعمق بين قطر والدول الأخرى غير الخليجية.
وتعد الإجراءات التي اتخذتها الإمارات والسعودية وغيرها جزءًا من جهدٍ منظم ومنسق لدفع قطر إلى التوافق مع الإجماع الذي تقوده السعودية حول الإخوان المسلمين وإيران. ومن شأن الدعم القوي الذي تقدمه الولايات المتحدة للتحالف الذي تقوده السعودية أن يعزز ثقة تلك البلدان في جعل هذه الخطوة لعزل الدوحة فعالة إلى حدٍ ما. ومع ذلك، يضاعف هذا الصدع أيضًا مهمة الولايات المتحدة، لأنّها تعتمد بذلك على تحالفٍ سنيٍ ضيق لإدارة التهديدات الإقليمية مثل تنظيم الدولة الإسلامية. وحتى في الوقت الذي تحاول فيه الرياض تقويض الثقة التي وضعتها واشنطن في الدوحة، لن يكون الأمر سهلًا، حيث تستضيف قطر ثاني أكبر وجود عسكري أمريكي في المنطقة، بما في ذلك مركز القيادة الأمريكي الذي ينسق معركة تنظيم الدولة الإسلامية. إضافةً إلى ذلك، تستحوذ قاعدة العديد الجوية في قطر النسبة الأكبر من الطلعات الجوية الأمريكية الإقليمية.
ومن جانبه أعلن الجيش الأمريكي أنّه لا يعتزم تعديل موقفه ردًا على الخلاف الدبلوماسي، وهو ما منح طمأنةً فورية للدوحة بأنّ دعمها الأساسي مضمونٌ وهو ما يطيل قدرة قطر على البقاء تحت ضغط دول مجلس التعاون الخليجي. وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة تحتفظ بشكلٍ روتينيٍ بعلاقاتٍ عسكريةٍ مع دول تتعارض مع بعضها البعض، إلا أنّ شدة الانقسام داخل دول مجلس التعاون الخليجي هذه المرة تؤكد نقاط الضعف في جهودها الرامية إلى إنشاء «الناتو العربي» والاعتماد عليه.
ستراتفور- ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد-