علاقات » خليجي

العودة إلى الخليج الدافئ

في 2017/06/12

كانت مقالتي الماضية، قبل أن تُعْلِن الدولةُ قرارها الحاسم بالمقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية للشقيقة قطر، وقد انتهى المقال إلى مطالبتها بالعودة إلى عمقها الإستراتيجي المتمثل في المملكة العربية السعودية.

ومضى أسبوع من الآن، وأنا ما أزال أتأمل أن تكون هذه الشِّدَّةُ تجاهها مُسَرِّعَة بأوبة الإخوة وإصلاح الأخطاء، وعودةِ خليجنا الهادئ إلى ما كان عليه قبل عشرين عاما حجرَ الزاوية الذي ترتكز على متنه كل دول المسلمين وتجمعاتهم، حيثما كانوا.

وحين أكتب مؤيدا موقف المملكة في هذه الأزمة، فلأنه يتأكد لي: أنه لو كانت لديها حيلة أوسع لاتخذتها خلال عقدين طويلين من الزمان، لكن «ضاق بالحَلَقِ البِطان».

ولو بدا لي صواب موقف مغاير لهذا الموقف الرسمي، لوسعني واجب السمع والطاعة مع لزوم الصمت، وربما أعمد إلى مكاتبة من أستطيع إليه سبيلا من المسؤولين بما يتراءى لي.

لكنني أجد هذا الموقف صحيحا، عدلا وعقلا، ولذلك أكتب عنه، وهو حق إن شاء الله، وإن بدا خفيّا عند كثير من كتاب الشبكات الإلكترونية، وبعض كتاب الصحافة العربية والبلاد الإسلامية.

ومما يؤكد ثقتنا في صواب ما اتخذته الدولة من قرارات، أن تاريخها منذ عام 1351 مليء بالمواقف التي تم حسمها بما هو الحكمة التي لا مزيد عليها، وكم من حدث خالف الدولةَ فيه المثقفون والحركيون، والتزم أهل العلم فيه السمع والطاعة، ثم لم نلبث سنوات حتى تبين أن الصواب في رَحْلِ الدولة.

ولعل من أسباب خفائه في أزمتنا هذه، قربُ الأواصر، فإن القرابات إذا اشتدت تَعسَّر معرفة حقيقة ما يجري بينها من مشكلات، ولهذا أُوجّه النصيحة إلى تركيا خاصة: بأن هذه القضية ليست قضية مزايدات واستقطاب فارغ للرأي العام، كما هي عادة القيادة التركية التي لم تترك قضية إلا وزايدت عليها، ثم تركتها ولم تقدم شيئا، بدءا بأحداث رابعة، مرورا بأحداث غزة وحماة وتلعفر والموصل، وأرجو ألا أحتاج إلى القول في زمن لاحق: «وانتهاء بالدوحة»، ولو شئتُ التعداد لأطلت في سرد القضايا التي يعلم القطريون قبل غيرهم، أن بلادهم لو دخلت ضمنها في المزايدات التركية، فلن يكون حالهم أحسن من حال من سبقهم.

كما أنصح القطريين: ألا تجعلوا إيران خياركم دون إخوتكم، فليست إيران سوى الآية الممحوة، والمتعلق بها كالمتعلق بِذَنَب الحمار، لن يستطيع جره معه، ولن يأمن أن يصقله بحافره؛ وإن تواضُعًا مع إخوانهم بعزّ خيرٌ من هوان لدى عدوهم في تصنُّع كبرياء.

والإعلاميون القطريون -للأسف- يحاولون تصوير هذه الأزمة على غير وجهها، فيخيلون للرأي العام أنْ لا مشكلة لدى الحكومة القطرية سوى إيواء المستضعفين -هكذا يقولون- من جماعة الإخوان، فذنب حكومة قطر إجارة الخائف وإيواء المظلوم، ويزعمون أن ما تريده السعودية وأشقاؤها من قطر، إنما هو انتهاك هذه المُثُل العربية والإسلامية العليا!

والمثير للدهشة، أن هناك من صدَّق هذه المزاعم، ومنهم -ويا للأسف- بعض أبنائنا وإخواننا!

والحقيقة، أن المملكة العربية السعودية كأكبر الأطراف الأربعة المشاركة في صناعة الحدث، غير معنية بشكل كبير بمسألة الإخوان المسلمين، وإذا كانت هناك مشكلة لجماعة الإخوان فهي للدول المشاركة الأخرى، لأن أي وجود لهذه الجماعة داخل المملكة فهو تحت السيطرة التامة اقتصاديا واجتماعيا وإداريا، ولا تشكل للدولة في الداخل أي خطر، كما أنها في خارج السعودية أضعف من أن تستطيع التأثير على دولة كالمملكة، فمن أشد ما يكون الأمر استبعادا أن تصدر هذه القرارات الحاسمة من قِبَل المملكة من أجل جماعة تحت السيطرة والرؤية التامة لدى الجهات الأمنية والسياسية والتعليمية والدينية والإعلامية.

ولنضف إلى ذلك، أن مدن المملكة العربية السعودية وقراها تأوي عشرات الآلاف بل أكثر من المنتسبين إلى الجماعة من مصر. مهندسون وأطباء ومدرسون وأساتذة جامعيون، وغيرهم، ولعلهم يكونون أكثر عددا من الذين تضمهم قطر، فالإخوان إذا لم يكونوا خطرا على أمن المملكة واستقرارها، فهم كسائر المسلمين، ومن مسّ الأمن نال جزاء المجرم، وإن كان أقرب المقربين.

ومِنْ أدهى وأعجب ما يُطرح في الإعلام القطري والسالك على دربه، قولهم: إن قطر الدولة القائمة بنصرة قضايا المسلمين ومستضعفيهم وفقرائهم وأيتامهم في العالم الإسلامي، وإن أي إجراء يُتخَذ ضدها فهو ليس ضد حكومة قطر، بل ضد الإسلام والمسلمين وقضاياهم العادلة!

وكما أنه ليس من العدل ولا المروءة جحد ما قدمته قطر في المجال الإغاثي والإنساني، فليس من الدين كذلك ولا من العقل والعدل والعلم أيضا، أن تُعْتَبَرَ قطر هي رقبة الأمة والتي تموت الأمة وقضاياها حينما تصاب باختناق.

وليس من العدل ولا العقل أيضا أن يُكَذِّبَ هؤلاء كلَّ ما تقوله السعودية من مؤاخذات على قطر، من أجل بعض المواقف المحمودة لها سياسيا أو إغاثيا؟

فإن المواقف المحمودة لا تعني براءة المتهم؛ فكم من إنسان مُصَلٍ صائمٍ متصدّق، ومع ذلك وقع في البغي والعدوان والإثم، فصلاح العبد من جهةٍ ليس كافيا ليحول بينه وبين الوقوع في مظنات التهم، وكذلك الأمر في الدول، فمواقف قطر ليست صكّ براءة تحول بيننا وبين أن نُصَدِّقَ ما يقال عنها، كما أن المملكة العربية السعودية ليست عدوّة الإسلام حتى يتهمها هؤلاء في دعاواها، إلى أن وصل الأمر بالأفّاكين ممن اشتغلوا بالمزايدة بالدين على بلادنا للقول: إن سبب هذه الأزمة هو مواقف قطر الإسلامية!

فإن من نظر بعدل -بعيدا عن منظار الحزبية الضيق- سيجد مواقف المملكة العربية السعودية من مقدسات المسلمين وحرماتهم ومحرَّماتهم أعرق في الأرض وأغزر فروعا فوق الأرض من أكثر الدول الإسلامية، ومنها قطر؛ ولو لم نجعل في هذا المقال إلا مثالا واحدا لكفى، وسأكتفي به لأنه أنسب لهذا الحدث، وليس لأنه أعظم ما قُدِّم، وهو أن من آوتهم السعودية من جماعة الإخوان المسلمين حين اضطهدهم جمال عبدالناصر وعبدالكريم قاسم ومعمر القذافي وحافظ الأسد، يزيد على عدد سكان قطر اليوم؛ أليس هذا من المعروف العظيم المتصل نفعه، والذي يقتضي من حامله أن يعرفه لصاحبه عرفانا وشكرا لمقتضى حديث «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، وحديث

«من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه». ومع أن السعودية أنقذتهم آنذاك من حبال المشانق، إلا أنهم لم يقفوا مع المملكة في أزماتها الكبرى موقفا واحدا محمودا، فلم يشاطروها رأيها في ثورة ملالي طهران، بل وقفوا أنصارا للخميني ضد أبناء مذهبهم وأرومتهم، وحين ساندت السعودية العراق في حربه ضد الصفويين لم يصدر منهم ما يشفي ضد إيران، وحين استولى صدام على الكويت وهدد المنطقة بأسرها وقفوا معه، وحين جاءت الحرب السادسة ضد الحوثيين وتدخلت السعودية لحسمها وقف الإخوان ضد السعودية.

كل ذلك ومواقف السعودية ليست عادلة وحسب، بل ومصيرية وشرعية وإنسانية، ومع ذلك لم يقف معها الإخوان، فهل لا يصح لنا القول إن الإخوان لا يقفون مع قضايا المسلمين بناء على ذلك؟!

الشاهد من كل ذلك، أن الوقوف مع الحكومة القطرية لا لشيء إلا لأنها بَلَغَت من نصر الإسلام حدا جعل كل من يقف في مواجهتها معاديا للإسلام، أمرٌ بالغ في الغلو وسوء التقدير، بل الكذب الصراح.

الذي يجب أن نعرفه حق المعرفة اليوم، كي لا نندم على الجهل به يوم غد، أن قطر «الدولة» منذ عام 1995 صنع منها قادتها ذراعا لمشروع برنارد لويس في الشرق الأوسط، ومن المخطط أن تكون الفوضى وإعادة التشكيل هي إستراتيجيته الأساسية، وكانت السعودية هي الدولة المستهدفة الأولى والأصعب، والخريف العربي إحدى خطوات هذا المشروع، ونشر الفِكرَين الصفوي والتكفيري هما قنابل الانفجار الأساسية؛ والتذبذب العقدي والذوبان الديني سلاح فكري يستخدم لقتل المثقفين عقديا.

وكل ما خدم ويخدم ما مضى، توجد مؤسساته في الدوحة؛ ويُدار من هناك فكريا وماليا وعسكريا.

وللحقيقة أقول: إن هناك ذراعا أخرى للتهيئة لمشروع التغيير في الشرق الأوسط، وهي الذراع الأخلاقية «العولمة»، وهي ذراع لم تتسع لعاتق قطر التي اتسعت لكل المتناقضات، وعلى دول البيان المشترك أن تلتفت كالتفاتتها هذه إلى تلك الذراع، فإن خطرها على الوجود -وإن كان أبطأ أثرا- إلا أنه أفلق حجرا.

محمد السعيدي- الوطن السعودية-