شكّل حضور ترامب في مؤتمرات القمة الأخيرة في الرياض خطوة أولى نحو إعادة العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي إلى سابق عهدها. إلا أن تعزيز المصالح الأمريكية الطويلة الأمد في منطقة الخليج وخارجها يتطلب أكثر من مجرد إبرام صفقات أسلحة وإلقاء خطابات. إذ يستدعي ذلك درجة من الكفاءة والدهاء الجيوسياسي اللذان كانت تفتقر إليهما السياسة الإقليمية الأمريكية منذ عدة سنوات، فضلاً عن استمرار المشاركة العسكرية والرغبة في تولي القيادة عبر وضع أطر لسياسة من شأنها أن تثني الحلفاء عن اتخاذ خطوات مزعزعة للاستقرار بمفردهم.
جذور المشكلة
يمكن أن تُعزى التوترات التي نشبت مؤخراً بين الولايات المتحدة ودول الخليج إلى عملية غزو العراق عام 2003، التي دفعت تبعاتها بالعديد من القادة الإقليميين إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة، قد أقدمت من خلال عدم كفاءة أو عن سابق إصرار وتصميم، إلى تسليم بغداد التي يحكمها العرب السنّة إلى الشيعة وإيران. وما عزز هذه الفكرة كان تصورهم بأن إدارة أوباما قد توددت بلهفة إلى أعدائها التاريخيين مثل إيران، في حين سارعت إلى التخلي عن حلفائها التاريخيين مثل الرئيس المصري حسني مبارك خلال المراحل الأولى من "الربيع العربي" عام 2011.
وبسبب انعدام الثقة هذا، أدّت الخطوات العديدة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية على أمل أن تطمئن دول «مجلس التعاون الخليجي» إلى تفاقم مخاوفهم في الواقع. فعلى سبيل المثال، اعتبر البعض أن تزويد إدارة أوباما أسلحة تفوق قيمتها عن 115 مليار دولار هي بمثابة دليل على أن الولايات المتحدة كانت تحصّن حلفائها لكي تنسحب من المنطقة. ولم تتمكّن القوات العسكرية الأمريكية المنتشرة على الأراضي والحدود الخليجية، والتي بلغ عددها 35000 عنصر، من طمأنة الشركاء فعلياً في الوقت الذي كان يتمتع فيه النظام السوري وحلفاؤه بحريّة ذبح المدنيين وتهجيرهم، واستخدام الأسلحة الكيميائية مع الإفلات من العقاب، وطرد قوات المتمردين، واستعادة الأراضي التي فقدها.
أصوات معارضة تعلو في سوريا
منذ توليها مقاليد الحكم، اتخذت إدارة ترامب خطوات عديدة من شأنها أن تخفف من حدّة بعض المخاوف التي تساور دول الخليج. ففي السابع من نيسان/أبريل، شنّت الولايات المتحدة ضربة صاروخية بحرية على "قاعدة الشعيرات الجوية" في أعقاب قيام النظام السوري بشن هجوم بالأسلحة الكيميائية على المدنيين في "خان شيخون". وفي 18 أيار/مايو و 6 حزيران/يونيو و 8 حزيران/يونيو، استهدفت الولايات المتحدة القوات الأجنبية الموالية للنظام التي هددت المتمردين السوريين ومستشاريهم في التحالف بالقرب من بلدة التنف الحدودية. وفي حين تشكّل هذه التدابير خطوة أولى إيجابية نحو إعادة الاعتبار إلى مصداقية الولايات المتحدة في الخليج، يكمن الاختبار الحقيقي فيما إذا كانت الإدارة الأمريكية ستحافظ على نهجها الصارم وتوسعه. وينطوي جزء من هذه المهمة على احترام خط الإدارة الأمريكية الأحمر المتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية، لئلا تخرقه دمشق مجدداً من خلال استئنافها الهجمات بالأسلحة الكيميائية. ولكن هذا وحده لن يحل الكارثة الجيوسياسية التي هي سوريا. ففي النهاية، كانت "أسلحة الدمار الشامل" الحقيقية للحرب عبارة عن بنادق هجومية ومدفعية وبراميل متفجرة - وفي حين قتلت الأسلحة الكيميائية نحو 1500 شخص في سوريا، أسفرت الأسلحة التقليدية عن مقتل ما يقرب من نصف مليون شخص.
وعلاوة على ذلك، فبينما تُعتبر الضربات التي تشنّها الولايات المتحدة على القوات العسكرية الموالية للنظام التي تقاتل المتمردين وقوات التحالف في مناطق تخفيف التصعيد في سوريا، مبرّرة بالتأكيد، سيكون من الأفضل بكثير إعداد قوات من المتمردين القادرين على الدفاع عن أنفسهم في مواجهة مثل هذه التحديات. وقد تساهم الجهود الرامية لإحياء وتنشيط التدريبات والتجهيزات الخاصة بالمتمردين غير السلفيين في جنوب سوريا (وأينما كان ذلك ممكناً) في ضمان سلامة الاتفاقات المتعلقة بتخفيف التصعيد أو بالمناطق الآمنة، ومنع المزيد من التدفقات الجماعية للاجئين، وفرض تكاليف كبيرة على النظام وحلفائه. وترمي مثل هذه الاستراتيجية إلى استنزاف القوات الموالية للنظام وإبقائها مقيّدة، مما يحول دون شن هجمات جديدة ضد المتمردين في الشرق أو الجنوب أو محافظة إدلب. ويعتبر هذا النهج الوسيلة الفعالة الوحيدة لخلق شكل من أشكال "المأزق الحرج" الذي قد يخفف من طموحات النظام، ويجبره على التقيّد بالاتفاقيات المحلية لوقف إطلاق النار والإبقاء على مناطق تخفيف التصعيد، ويعرقل الجهود الإيرانية لبناء جسر بري إلى البحر الأبيض المتوسط.
بيع الأسلحة مقابل بناء القدرات
خلال زيارة الرئيس ترامب للسعودية في 20-21 أيار/مايو، أعلنت واشنطن أيضاً عن عقود تسليح أمريكية للمملكة بقيمة 110 مليارات دولار. ويبدو أن هذه الصفقة تشمل مبيعات تقدر قيمتها بحوالى 12.5 مليار دولار التي سبق وأن صادقت عليها "وكالة التعاون الأمني الدفاعي" ومررتها إلى الكونغرس الأمريكي للموافقة عليها، بالإضافة إلى صفقة مبيعات أخرى بقيمة 84.8 مليار دولار كانت قيد التحضير لعدة سنوات وتم عرضها أخيراً على الرياض بشكل مبدئي إلى أن تنال موافقة وزارة الخارجية والكونغرس الأمريكيان. بيد، من غير الواضح ما إذا كانت الرياض ستمارس خيارها لشراء جميع هذه الأسلحة، أو ما إذا كان المشرّعون الأمريكيون سيمررون كل صفقة من هذه الصفقات.
والأهم من ذلك كلّه أنه بينما قد تسد بعض عمليات الشراء الثغرات الكامنة في البنية العسكرية السعودية، إلّا أنه من غير المرجح أن تتمكن صفقات الأسلحة بمفردها من سدّ أبرز الثغرات الكامنة في قدرات المملكة. وتتضمن هذه الأخيرة تأمين الحدود السعودية الطويلة مع اليمن؛ والتعامل مع التهديد الذي تشكله قذائف الهاون الحوثية والصواريخ والقذائف قصيرة المدى؛ وإجراء عمليات الأمن الداخلي في المنطقة الشرقية بطريقة لا تؤدي إلى تفاقم التوترات مع السكان الشيعة هناك؛ وتأمين خط المملكة الساحلي الطويل والبنية التحتية العسكرية الحيوية. وبالمثل، تفتقر دول «مجلس التعاون الخليجي» إلى بنية إقليمية متكاملة للدفاع الصاروخي، مما يجعلها عرضة للتكتيكات الإيرانية المركزة.
ونظراً لضعف أداء العديد من الجيوش المدربة من قبل الولايات المتحدة في المنطقة- بما في ذلك الجيش السعودي - يتعيّن على واشنطن أن تعيد النظر في النهج الذي تعتمده في تأمين المساعدة لقوات الأمن، وتجنب محاولات تحويل القوات الشريكة إلى نسخ مصغّرة عن الجيش الأمريكي. وبدلاً من ذلك، ينبغي عليها أن تتبنى نهجاً محدداً وفق الطلب يساعدها على أن تصبح أكثر فعالية من خلال استقاء الدروس من النجاحات السابقة (مثل تدريب "دائرة مكافحة الإرهاب" في العراق والقوات المسلحة لدولة الإمارات وتوجيههما) مع الأخذ بعين الاعتبار التفضيلات الثقافية المحلية والاحتياجات العملياتية. وتحتاج الولايات المتحدة الآن أكثر من أي وقت مضى، إلى حلفاء مؤهلين وقادرين في الخليج.
أمريكا لا تزال بحاجة إلى قيادة من الخلف
على الرغم من تمتع دول «مجلس التعاون الخليجي» بإمكانية تحسين قدراتها الفردية كثيراً، إلا أنه من غير الواقعي تأمُّل إقامتها منظمة أمنية جماعية فعالة على غرار "حلف شمال الأطلسي"، خاصة نظراً لعدم قدرتها على التعاون حول [إقامة] بنية إقليمية متكاملة للدفاع الصاروخي أو التعامل مع التهديدات الأوسع نطاقاً. وفي كثير من الأحيان، سهّلت الولايات المتحدة قيام تعاون عسكري محدود بينها (باستثناء حملة الائتلاف الإشكالية في اليمن). ولهذه الأسباب وغيرها، يجب على واشنطن أن تبقى منخرطة دبلوماسياً وعسكرياً في المنطقة.
وبشكل أكثر تحديداً، يتعيّن على الولايات المتحدة أخذ زمام المبادرة في وضع أطر للسياسات الأمنية الخاصة بشركائها الإقليميين، لئلا ينفردوا باتخاذ الخطوات التي قد تضرّ بالمصالح الأمريكية. وقد دفع عجز إدارة أوباما عن وضع إطار عمل فعّال في سوريا إلى قيام الشركاء الخليجيين باتخاذ خطوات غير مجدية مثل دعم الجهاديين السلفيين المتطرفين ضد نظام الأسد. كما أدى فشلها في القيادة إلى جعل عملية صياغة الخيارات السعودية والإماراتية في اليمن أكثر صعوبة، وربما لعب ذلك دوراً في توليد الأزمة الدبلوماسية الحالية مع قطر.
وفي الوقت نفسه، أحدثت المحاولة الجليّة لإدارة أوباما في الانسحاب من المنطقة تغييراً في الثقافة الاستراتيجية الخليجية، مما جعل بعض الشركاء الأمريكيين أكثر ثقة في قدرتهم على التصرف بمفردهم. وفي حين ينطوي هذا التغيير على مخاطر [جمّة] (كما يحدث في سوريا واليمن)، إلّا أنه خلق فرصاً أيضاً، لأن الشركاء قد يكونون الآن أكثر استعداداً لاتخاذ مواقف هجومية جريئة من بعض القضايا والسماح لواشنطن "بالقيادة من الخلف" عندما تصبح المصالح أو الأزمات الأخرى في أي بقعة أخرى من الأرض في وضع يتطلب اهتمامها.
وكما أظهرت الأحداث التي جرت في العقد والنصف الماضيين، فلا يوجد بديل عن السياسات السليمة المبنيّة على حكم جيوسياسي سليم. فلا يمكن لمبيعات الأسلحة أو زيادة عدد القوات العسكرية أن تعوّض عن الأخطاء والخطوات الناقصة في السياسة التي قد تترتب عنها تداعيات إقليمية في النطاق وجيوسياسية في الحجم، مثل غزو أمريكا للعراق عام 2003، أو تعاملها مع الأزمة السورية، أو محاولتها فك الارتباط العسكري من المنطقة بعد عام 2011. وبالمثل، فإن حظر الهجرة، أو عدم تأكيد الالتزامات التي تنص عليها المعاهدات، أو تسريب المعلومات من الإستخبارات الحليفة قد تؤثر على العلاقات الأمريكية التي لا تنحصر فقط بالأطراف المعنية مباشرة.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن المصداقية هي طريق ذو اتجاهين. وفي السنوات الأخيرة، اتخذت بعض دول «مجلس التعاون الخليجي» خطوات في سوريا واليمن، وربما في قطر حالياً، التي قد لا تخدم مصالحها أو مصالح الولايات المتحدة. ولذلك فإن إعادة العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج إلى سابق عهدها، ستتطلب المزيد من المشاورات قبل اتخاذ أي مبادرات مهمة أو خطوات للوراء ضمن إطار السياسة العامة، ورغبة أكبر بين دول «مجلس التعاون الخليجي» للعمل نحو تجميع القدرات وتحقيق أهداف مشتركة، فضلاً عن استعداد الولايات المتحدة لاستئناف دورها القيادي في منطقة أظهرت مراراً وتكراراً المخاطر التي قد تترتب عن التجاوزات وفك الارتباط العسكري.
مايكل آيزنشتات- معهد واشنطن-