قبل بضعة أشهر، بدا أن ترشح محافظ جاكرتا أكبر مدينة في إندونيسيا، لإعادة انتخابه أكثر سهولة على الرغم من كونه مسيحيا في بلد أغلبيته مسلمة. فجأة ذهب كل شيء بالاتجاه المعاكس بشكل عنيف ونزلت جماهير المسلمين الغاضبين إلى الشوارع للتنديد به. وفي وقت قصير خسر الانتخابات، وألقي القبض عليه، وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين.
هذه الحلقة مثيرة للقلق بشكل خاص لأن اندونيسيا، أكبر دولة مسلمة في العالم، كانت منذ فترة طويلة واحدة من أكثر الدول تسامحا. نظام الإسلام الإندونيسي، مثل معظم نظم المعتقدات على هذا الأرخبيل الشاسع، يعد متسامحا، ومتفتح الذهن. لكن سقوط محافظ جاكرتا المذهل يعكس الأمر بشكل مختلف: التعصب، والكراهية الطائفية، وازدراء الديمقراطية، والأصولية الآخذة في الارتفاع في إندونيسيا. هذا لم يحدث وحده بشكل طبيعي.
ما زالت السعودية تعمل منذ عقود لسحب إندونيسيا بعيدا عن الإسلام المعتدل، وإلى الشكل الوهابي المتقلب الذي هو منهج الدولة الديني في السعودية. وكانت حملة السعوديين صبورة ومتعددة الأوجه وممولة بسخاء. وهو يعكس العمل الذي شنوه أيضا في البلدان الإسلامية في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا.
وقد أكد لنا الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون أن السعودية صديقتنا وتتمنى لنا التوفيق. لكننا نعرف أن «أسامة بن لادن» ومعظم خاطفيه في هجمات 11 سبتمبر/أيلول كانوا سعوديين، وكما كتبت وزيرة الخارجية «هيلاري كلينتون» في برقية دبلوماسية منذ ثماني سنوات، «يشكل المانحون في السعودية أهم مصدر للتمويل للسنة الجماعات الإرهابية فى جميع أنحاء العالم».
إن الأحداث الأخيرة في إندونيسيا تسلط الضوء على مشروع سعودي أكثر ضراوة لتمويل الإرهابيين. وقد استخدمت السعودية ثروتها التي يأتي معظمها من الولايات المتحدة لتحويل دول بأكملها إلى بؤر للإسلام الراديكالي. وبرفضنا الاحتجاج أو حتى الاعتراف رسميا بهذا المشروع البعيد المدى، فإننا نمول قتلنا والإرهاب العالمي.
إن مركز حملة السعودية لتحويل الإندونيسيين إلى الإسلام الوهابي هو جامعة خالية من الرسوم الدراسية في جاكرتا تعرف اختصارا باسم «LIPIA». جميع تخصصات التعليم فيها باللغة العربية، ويتم إعدادها بشكل رئيسي من قبل الدعاة من السعودية والبلدان المجاورة. ويجري الفصل بين الجنسين؛ يتم فرض قوانين لباس صارمة؛ وكذلك الحال مع الموسيقى، والتلفزيون، و «الضحك الصاخب» كلها ممنوعة.
ويأتي العديد من الطلاب من أكثر من 100 مدرسة داخلية تدعمها السعودية في إندونيسيا، أو يحضروا من المساجد الـ 150 التي أنشأها السعوديون هناك. وتعطى منح للواعدين منهم للدراسة في المملكة العربية السعودية، والذين يعودون من خلالها باستعداد كامل لإثارة الفوضى الاجتماعية والسياسية والدينية في وطنهم. بعضهم يشجع جماعات إرهابية مثل حماس إندونيسيا وجبهة المدافعين الإسلاميين، التي لم تكن موجودة قبل وصول السعوديين.
وكان الملك «سلمان»، حريصا على الضغط من أجل مصلحته، في زيارة استغرقت تسعة أيام إلى اندونيسيا في مارس/أذار، رافقه فيها وفد من 1500 شخص. وقد وافق السعوديون على السماح لأكثر من 200 ألف إندونيسي بالحج إلى مكة كل عام، أكثر من أي بلد آخر، والتمسوا الإذن بفتح فروع جديدة لجامعتهم. بعض الإندونيسيين لا يريدون الاعتداء السعودي على قيمهم التقليدية، ولكن من الصعب رفض الإذن للمدارس الدينية الجديدة عندما لا تكون الدولة قادرة على توفير بدائل علمانية لائقة. في إندونيسيا، كما هو الحال في البلدان الأخرى التي ينشط فيها السعوديون من خلال الوهابية، بما في ذلك باكستان وأفغانستان والبوسنة، فإن ضعف الحكومات المركزية وفسادها يخلقان مجمعات من العاطلين عن العمل الذين لا يستطيعون مقاومة الإغراء بسهولة عن طريق وعود الطعام المجاني ومكان في جيش الله.
إن الأصولية المتزايدة التي تحول إندونيسيا حاليا تعطينا عدة دروس. الأول هو ما يجب أن نتعلمه بالفعل، حول طبيعة الحكومة السعودية. إنها ملكية مطلقة تدعم واحدة من أكثر الطوائف الدينية الرجعية في العالم. وهي تعطي رجال الدين مبالغ كبيرة لتعزيز العواطف المعادية للغرب، والمضادة للمسيحية، والمعادية للسامية في الخارج. في المقابل، نجد امتناع رجال الدين عن انتقاد النظام الملكي السعودي أو الآلاف من الأمراء الذين يعيشون بشكل مترف كبير. ويقدم السعوديون الذين لهم علاقات وثيقة مع الأسرة الحاكمة دعما حاسما لمجموعات مثل القاعدة وطالبان وتنظيم الدولة. وينبغي أن تكون هذه الحقيقة في مقدمة عقولنا عندما ننظر في سياستنا تجاه الشرق الأوسط، بما في ذلك عندما نقرر ما إذا كنا سنتناقش مع السعوديين في نزاعهم الجديد مع قطر المجاورة.
إن نجاح السعودية في إعادة تشكيل إندونيسيا يدل على أهمية المعركة العالمية حول الأفكار. ويرى الكثيرون في واشنطن أن الإنفاق على المشاريع الثقافية وغيرها من مشاريع «القوة الناعمة» يكون أمرا غير مجد. السعوديون يشعرون بشكل مختلف. أنهم يصبون الأموال والموارد لتعزيز وجهة نظرهم في العالم.
وتظهر الحملة السعودية لنشر صورتها المتشددة من الإسلام أيضا أن الأحداث التي تهز الأرض غالبا ما تحدث ببطء وهدوء. تركز الصحافة باهتمام على الأخبار اليومية، وغالبا ما تغيب عن قصص أعمق وأكثر أهمية. وينطبق هذا على حملة السعودية الطويلة الرامية إلى إعادة 1.8 مليار مسلم في العالم إلى القرن السابع. نحن بالكاد نلاحظ ذلك، ولكن كل يوم، يحدث هذا من مومباي إلى مانشستر، ونحن نشعر بآثاره.
«بوسطن غلوب»-