إن الأزمة التي يعيشها الخليج الآن وتتشابك معها الولايات المتحدة وتهدد الآن بسحب تركيا وإيران، يمكن أن تعزى بدايتها إلى رجل واحد.
عندما تولى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ولي عهد قطر السلطة عام 1995، استولى على دولة بالكاد تكون مستقلة ويقترب حجمها مع ولاية كونيتيكت،. وقد تم الهيمنة عليها منذ الاستقلال في عام 1971 من قبل الجار الأكبر بكثير والأكثر قوة، المملكة العربية السعودية.
وقد أعرب عن اعتقاده بأن قطر لن تجد الأمن إلا عن طريق تحويل نفسها من التبعية للسعودية الى منافسها. ولكن كيف؟
إن الخطة الجريئة التي طرحها أطلقت حربا إقليمية باردة، في الوقت المناسب، ليس فقط في سياسات دول الخليج الغنية بالنفط، بل أيضا سياسات الشرق الأوسط بأكملها، وبلغت ذروتها في أزمة الأسبوع الماضي.
سيكون الأمر كما لو سعت كوبا للخروج من النفوذ الأمريكي من خلال أن تصبح قوة عظمى عالمية بين عشية وضحاها، تتنافس مع الولايات المتحدة في جميع أنحاء آسيا وأوروبا.
يبدو أن استراتيجية قطر تتعرض للضغط أخيرا في الأسبوع الماضي، حيث تفرض المملكة العربية السعودية وحلفاؤها حصارا. ولكن قطر لديها حلفاؤها أيضا. ولا تزال نتائج هذا التنافس تتكشف.
في السنوات التي سبقت تولي الشيخ «حمد» السلطة، عمدت بعض الحوادث إلى تعميق رغبته في الخروج عن الهيمنة السعودية. في عام 1988، أقام والده علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي، وهو خصم سعودي، مما أعطي قطر طعم سياسة خارجية مستقلة.
وفي عام 1992، أدى اشتباك مع السعودية على طول الحدود القصيرة و المتنازع عليها إلى مقتل جنديين قطريين. وبعد عامين، عندما سقط اليمن في حرب أهلية قصيرة، حيث أيدت قطر والسعودية جانبين متعارضين.
ويقول «مارك لينش»، وهو أكاديمي في جامعة جورج واشنطن، وضع الشيخ حمد وجهة نظره على النحو التالي: «لماذا نكون تحت إبهام السعوديين؟». كما كان لدى الأمير القطري طموحات لإثبات نفسه .
تصاعد التنافس
نمت عدد قليل من البلدان إلى قوة إقليمية. وتمكنت قطر من إدارة ذلك في غضون سنوات قليلة.
يقول السيد لينش: «منذ أواخر التسعينات، كانت السياسة الخارجية القطرية هي مزيج من: ماذا يمكننا أن نفعل لكي نجد أنفسنا على الخريطة؟ أو ماذا يمكننا أن نفعل لإزعاج السعوديين؟».
أقامت قطر علاقات مع إيران، واستضافت قاعدة جوية أمريكية كبيرة، في جزء منها للحماية من البلطجة السعودية. كما أنشأت قناة الجزيرة الفضائية الإخبارية، وذلك لاستخدامها كقوة ناعمة، من أجل تعزيز الحلفاء وكوخزة في خاصرة الأسرة السعودية المالكة.
كما استفادت من تاريخها كمأوى بعيد المنال للإسلاميين. وإذا كان على الحكومات الأجنبية التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين، أو حماس ، أو الانفصاليين الشيشان، أو حتى طالبان، فإنهم غالبا ما يمرون عبر قطر.
وبعد ذلك، في التسعينات، أدت التطورات التكنولوجية والاقتصادية إلى إنشاء سوق عالمي للغاز الطبيعي المسال، يمكن تحميله على السفن، متجاوزا خطوط الأنابيب التي ستمتد عبر الأراضي السعودية. وتعد قطر من أكبر من يملكون احتياطي الغاز في العالم، حيث توسع اقتصادها من 8.1 مليار دولار في عام 1995 إلى 210 مليار دولار في عام 2014.
وكان الشيخ «حمد» ووزير خارجيته يتنقلان من عاصمة عربية إلى أخرى ويقدمان خدماتهما كوسطاء ومتبرعين بسخاء. ووجدت الولايات المتحدة أن الدبلوماسية القطرية مفيدة، وإن كانت مزعجة أحيانا، وتم استخدامها كأساس لمحادثات السلام الأفغانية. واعتمدت واشنطن على قاعدتها الجوية القطرية للحرب في العراق، وفي وقت لاحق، في الضربات في سوريا.
وفي عام 2002، سحبت السعودية سفيرها في قطر، بسبب انتقادات الجزيرة للحكومة السعودية. وقال «ديفيد ب. روبرتس»، الأستاذ في كلية كينغز في لندن: «استغرق الأمر حتى عام 2008 بالنسبة للمملكة العربية السعودية أن تستوعب فكرة أن قطر دولة مستقلة تماما». وعاد السفير السعودي إلى قطر في عام 2008.
وووفر الربيع العربي، الذي شهد انتفاضات في جميع أنحاء المنطقة في عام 2011، فرصة لقطر. ولكل مع كل ما كان لها من نفوذ متصاعد، لم تكن قطر قادرة أبدا على كسر الهيمنة الإقليمية السعودية.
دعمت قطر الحركات المناهضة للحكومات، العلمانية والإسلامية على حد سواء، عبر بث الجزيرة، والدعم الدبلوماسي، وفي وقت لاحق، المال وأحيانا الأسلحة، على أمل إقامة حكومات جديدة ودية. وعندما أظهر الإسلاميون صعودا، أيدت قطر دعمهم ووقفت خلفهم.
بالنسبة للسعودية، فإن الانتفاضات عرقلت النظام الإقليمي، وربما حكمها الخاص وكانت الحركات الإسلامية الشعبية تعتبر تحديا مؤرقا طويلا في الداخل.
يقول السيد «لينش»: «في كل مرة يتم فيها فتح فراغ في المنطقة، فإن المتنافسين في الخليج سوف يسارعون إلى ملئه أولا. في الفترة من 2011 إلى 2013، كانوا في حرب مفتوحة بالوكالة عبر المنطقة».
ففي تونس، على سبيل المثال، دعم كل طرف حزبا سياسيا معارضا. وفي أماكن أخرى، أثارت منافساتهم العنف. في ليبيا، كل الجماعات المسلحة كانت مدعومة من قوى مختلفة، وفي سوريا، سعت هذه الدول إلى اعتراض بعضهم البعض في تمويل المعارضين.
وفي مصر، دعمت قطر الإخوان المسلمين، الذي فاز مرشحهم بأول انتخابات رئاسية حقيقية في البلاد في عام 2012. وفي العام التالي، عندما تولى الجيش المصري السلطة في انقلاب، منحت السعودية وحلفاؤها الحكام الجدد حزمة مساعدات بقيمة 12 مليار دولار.
وقد ساعدت هذه التدخلات، بالإضافة إلى تشكيل الربيع العربي، على إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية في المنطقة. وانضمت تركيا، لأسباب خاصة، إلى قطر في دعم الانتفاضات، لتشكيل أساس أول تحالف حقيقي مع قطر. وانضمت الإمارات إلى السعودية خوفا من الانتفاضات في الداخل، وتوحدت خلف القيادة السعودية ضد قطر.
وضع جديد غير مستقر
وقال السيد «لينش»: «في عام 2013، أصبح لديك موقف قطري بشكل أو بآخر».
عانى حلفاء الربيع العربي في قطر من نكسات مدمرة. الشيخ «حمد»، في حالة صحية سيئة،وقد تنازل عن العرش وخلفه ابنه الذي يبلغ من العمر 33 عاما مع خبرة أقل. ومع ذلك، احتفظت قطر باستقلالية وشبكة اتصالات كبيرة.
وتسامحت السعودية مع الاستقلال القطري، للتركيز على حرب إقليمية أخرى ضد إيران. وقد خدم ذلك أيضا مصالح الولايات المتحدة التي اعتمدت على كل من السعودية وقطر في قتال تنظيم الدولة الإسلامية وأرادت استقرارهما.
وقد أدى الاتفاق النووي مع إيران، والذي عارضته السعودية، إلى تعقيد المسألة. وقد ترك ذلك السعودية أكثر قلقا من صلات قطر بإيران.
مقامرة السعودية
وعلى الرغم من أن قطر تراجعت، إلا أن حملتها علمت السعودية درسا: تشكل قطر غير الخاضعة للرقابة تهديدا خطيرا. ووجدت السعودية، التي انضمت إليها دول خليجية أخرى ومصر، أخيرا فرصة لإعادة فرض الهيمنة من خلال الحصار الأسبوع الماضي.
وهذا من شأنه أيضا أن يجبر الآخرين على اختيار أحد الجانبين. ولكن يبدو أن السعودية تفوز بسرعة بأكبر جائزة على الإطلاق وهي: «الدعم من قبل الرئيس الأمريكي».
ولكن عملية الإجبار يمكن أن تكون محفوفة بالمخاطر. وقد عرضت إيران مساعدات غذائية إلى قطر حيث تراهن طهران على أنها تستطيع توسيع نفوذها هناك ويوجد سعي من دولتين خليجيتين أخريين هما الكويت وعمان إلى تحقيق التوازن بين قطر وبين السعودية. وأعلنت المغرب يوم الاثنين أنها سترسل مساعدات غذائية إلى قطر. ويمكن أن تأتي الخطوة الأهم من تركيا، التي تقف صراحة مع قطر. وقد وافق البرلمان على إجراء يسمح لتركيا بنشر ما يصل إلى 3 آلاف جندى في قاعدتها في قطر حيث يوجد 100 جندي حاليا.
وقال «أرون شتاين» المحلل في المجلس الأطلسي، وهو مركز للتفكير مقره في واشنطن، أن تركيا قامت مؤخرا بتصحيح العلاقات مع السعودية بحثا عن حل وسط، «لكن هناك حدودا لذلك». وتؤيد وسائل الإعلام التركية التي تسيطر عليها الدولة، الدفاع عن قطر، كحليف. وعلى الرغم من أن تركيا عضو في حلف الناتو، فإنها انضمت إلى إيران خلال العام الماضي في مواءمة استراتيجياتها الإقليمية مع روسيا. ولهذا فإن موسكو يمكن أن تكسب في الأزمة التي يتشاجر فيها حلفاء الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن قلة منهم يتوقعون تصعيد المواجهة إلى العنف، إلا أنه لا يزال بعيدا عن الوضوح كيفية حل الأزمة. وقد يكون هذا هو نهاية التنافس السعودي القطري الذي استمر عقدين، أو يمكن أن يجلب ذلك مرحلة أخرى من عدم الاستقرار والتحالفات الشاملة إلى منطقة لديها الكثير من عدم الاستقرار بالفعل.
ماكس فيشر - نيويورك تايمز- ترجمة وتحرير أسامة محمد - الخليج الجديد-