من خلال دعم رؤية المملكة العربية السعودية للشرق الأوسط، وتعزيز الوفاق السعودي الإسرائيلي ضد إيران، أثار «ترامب» زلزالًا جيوسياسيًا في المنطقة، وخاصةً داخل مجلس التعاون الخليجي الذي تقوده السعودية. وقد قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر مع محاولة عزل الدولة الصغيرة والمؤثرة، واتهمتها برعاية الإرهاب. وفي الوقت نفسه، يرى المحور السعودي الإسرائيلي، بحكم الأمر الواقع، إيران تهديدًا وجوديًا مباشرًا، مما يدفع حليفتها أمريكا للعودة إلى الشرق الأوسط، مع استعداد لتشارك تكاليف هذه الاستراتيجية الجيوسياسية.
وأعطت زيارة الرئيس «ترامب» للمملكة، مع الإطراء المتبادل والتوافق الشديد في وجهات النظر، وإن كان لا يزال نظريًا، والصفقة التي بلغت مليارات الدولارات، الضوء الأخضر المطلق لسعي الرياض للهيمنة الإقليمية. وبعد قمع الأقليات وغيرها من أصوات المعارضة في الداخل، يقوم السعوديون بتكثيف الحرب ضد اليمن مع مزيد من القصف، وتعميق المجاعة في أكثر دول شبه الجزيرة العربية اكتظاظًا بالسكان، بالإضافة إلى عزل قطر عن طريق الجو والبر والبحر، الأمر الذي قد يكون بمثابة إعلان الحرب ضدها.
وفي أداءٍ شديد السوء، حتى من خلال معاييره الخاصة، عبر الرئيس «ترامب» في خطابٍ له بواشنطن وعبر تويتر عن لغة تحريضية ضد قطر، واصفًا إياها بالراعي الحكومي للإرهاب، في حين قام بتكرار الاتهامات العامة ضد إيران. ويبدو أنّ الخطوط العريضة للخطة الجيوسياسية تستند إلى مساعدة السعودية على السيطرة على شبه الجزيرة العربية من خلال إخضاع اليمنيين وإخضاع قطر، باتفاقٍ ضمني مع تل أبيب، وربما الهجوم على إيران، والتحرك أولًا ضد الميليشيات السورية والعراقية المرتبطة بها قبل التحرك مباشرةً ضد إيران نفسها. وربما لم تعد الحرب ضد تنظيم الدولة أولوية قصوى.
وراء الانقسام السعودي القطري
يوجد بين قطر والسعودية (وكذلك الإمارات والبحرين ومصر) الكثير من الجدل. فقطر التي تبلغ مساحتها 11 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها 2.5 مليون نسمة معظمهم من الأجانب، هي أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وتشارك مع إيران أكبر حقلٍ للغاز الطبيعي على كوكب الأرض، وهو حقل بارس. وتعد قطر واحدة من أغنى الدول في العالم، وهي مصدر مهم للغاية للغاز الطبيعي المسال إلى آسيا وأوروبا، مع استثماراتٍ ضخمة في أوروبا من خلال صندوق الثروة السيادية. وتجذب ثروة قطر الكثير من الشهية، بما في ذلك «ترامب»، الذي يرغب في أن تحل الولايات المتحدة محل قطر كمورد عالمي. وربما يكون هذا هو السبب الحقيقي وراء عاصفة «ترامب» على موقع تويتر ضد هذا البلد الصغير. ومع كل ذلك، لا يجب إغفال حقيقة أنّ قطر تستضيف قاعدة القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط.
وتوجد منافسة بين الأمراء العرب الشباب، خاصةً بين ولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع «محمد بن سلمان» البالغ من العمر 31 عامًا، والشيخ «تميم بن حمد آل ثاني»، البالغ 37 عامًا، أمير قطر. وهناك نزاعات بين البحرين وقطر أيضًا، في حين تسعى الإمارات لإقناع الأميركيين بنقل مقر القيادة المركزية الأمريكية إليها والخروج من قطر. وتعترف قطر بدعمها للإخوان المسلمين الإسلاميين وحركة حماس، لكنّها تنكر دعم الإرهاب. وهي تحافظ على علاقاتٍ جيدة نسبيًا مع إيران. ويسبب هذا اللعب مع جميع الأطراف الإزعاج للسعوديين، الذين يطالبون قطر بالدخول إلى بيت الطاعة. ومع ذلك، ليس هذا هو السبب الأعمق وراء الانقسام السعودي القطري.
الانقسام داخل الإسلام السني
وفي حين يعد أمر تصدير الغاز الطبيعي مهمًا وذا صلة، إلا أنّ الانقسام السعودي القطري هو أيديولوجي في المقام الأول. وهو ناتج عن دعم قطر لمن يدعمون الليبرالية الإسلامية متمثلين في الإخوان المسلمين و«تركيا أردوغان» و«مصر مرسي». وهو ما تراه السعودية وحلفاؤها الخليجيين بالإضافة إلى «مصر السيسي» تهديدًا وجوديًا.
وبذلك، فإنّ الحصار المفروض على قطر هو في الواقع نتاج أيديولوجية وسياسة النهج السعودي المصري الذي يحظى بدعم ضمني من (إسرائيل) ودعمًا علنيًا من «ترامب».
صديق السعودية وعدو قطر
هل يمكن تصنيف السعودية كدولة تحارب الإرهاب؟ هل قطر دولة راعية للإرهاب، كما يؤكد الرئيس «ترامب»؟ هناك أدلة على أنّ قطر كانت ولا تزال ممولًا لحركات أخرى أكثر أو أقل من جماعة الإخوان المسلمين وبعض الجماعات ذات النشاط الجهادي. ولكن إذا كانت قطر قد حاولت تفعيل الحركات الإسلامية الموجهة والتابعة للإخوان المسلمين، فإنّ السعودية هي أصل القبلية السلفية. ومن خلال شبكتها من المدارس والمعاهد الدينية التي تديرها ماليًا وأيديولوجيًا، وجميع المساجد الوهابية في جميع أنحاء العالم، ورجال الدين الوهابيين الذين يرشدون ويلهمون الجماعات والخلايا السلفية الجهادية، تصبح الجماعات الإرهابية، بما فيها القاعدة وتنظيم الدولة، في حد ذاتها نتيجةً لهذا المد الوهابي.
والوهابية هي الركيزة الأيديولوجية لآل سعود. وهنا، يروج الرئيس «ترامب» بوعي لحقائق بديلة، لأنّه يعلم إلى حدٍ كبير الروابط الأيديولوجية والمالية بين السعوديين والجماعات السلفية الجهادية. ومن المعروف أنّ 15 من أصل 19 إرهابيًا نفذوا هجمات 11 سبتمبر/أيلول كانوا سعوديين لهم صلات بالمؤسسة السعودية، في حين أفادت المخابرات الألمانية أنّ السعودية ودول الخليج الأخرى تمول بشكلٍ مباشر التطرف الإسلامي في ألمانيا.
وإذا كان الرئيس «ترامب» يعتقد أنّ السعودية يمكنها المشاركة في تعزيز الاستقرار من خلال وقف تصدير التعاليم التي تحول الدين إلى أيديولوجية للعنف، كان عليه أن يطلب من السعوديين وقف تمويل المساجد الوهابية ومراكزها في جميع أنحاء العالم، ومنع كبار رجال الدين الوهابيين من الدعم العلني للإرهابيين.
نسخة «ترامب» من الواقعية
وفي معهد بروكينغز، يشير «بروس ريدل» إلى أنّ صفقات «ترامب»، التي تعادل قيمتها مليارات الدولارات، مع السعوديين، هي أخبار زائفة، حيث يعود معظمها إلى اتفاقيات مبدئية أبرمتها إدارة «أوباما». وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال بعض الأخبار الحقيقية عن تلقي فندق ترامب أموالًا من حملة ضغط سعودية. وتعهدت الإمارات والسعودية بمبلغ 100 مليون دولار لصالح صندوق خيري تروج له «إيفانكا ترامب». وهكذا تتداخل السياسة والأمور الشخصية.
ومن هنا صنف «ترامب» قطر كدولة راعية للإرهاب. ومع ذلك، فقد برأ السعودية، المصدر الأساسي للمنهج السلفي والجهادي، ويدعم منافستها الإقليمية مع إيران، متجاهلًا رسالة الناخبين الإيرانيين الذين أرسلوها مؤخرًا بإعادة انتخاب الرئيس «روحاني» ، وهو رئيس معتدل واقعي لا تحترم حكومته الاتفاق النووي فحسب، بل وتظهر انفراجة في علاقتها مع الدول العربية في الخليج العربي، وتقترح مفاوضات لتحقيق الاستقرار في سوريا والعراق وتهميش الإرهاب. والأسوأ من ذلك، في الوقت الذي تعرضت فيه طهران لهجومٍ إرهابيٍ من قبل تنظيم الدولة، كان «ترامب» يصف إيران مرة أخرى بالدولة راعية الإرهاب، وحملها المسؤولية عن الهجمات.
الاستراتيجية الأوسع لـ«ترامب»
يبدو أنّ صفقة «ترامب» مع السعوديين تدار كالتالي: يدعم «ترامب» ثيوقراطية المملكة، والجيوسياسية العدوانية في حربها في اليمن، وجهودها لإخضاع قطر، ومنافسة إيران، في مقابل استعداد السعوديون لوضع موارد الغاز الطبيعي في قطر تحت تصرف «ترامب». ويرى «ترامب» أنّ الهيمنة السعودية على شبه الجزيرة العربية، و تقارب الرياض مع تل أبيب، وتقلص التأثير الإيراني، سيتيح له السيطرة على موارد الطاقة في الخليج العربي والشرق الأوسط، مع الآثار الأكبر المترتبة على أوروبا والصين كمستهلكين نهائيين لها.
وفي ضوء ذلك، لا يبدو من قبيل الصدفة أنّ «أنجيلا ميركل»، رئيسة وزراء ألمانيا، و«شينزو آبي» رئيس وزراء اليابان، يسافران إلى روسيا للتوقيع على اتفاقية في مجال الطاقة، في حين يطالب الاتحاد الأوروبي باحترام الاتفاق النووي الإيراني وتتحدث الصين علنًا عن عضوية مستقبلية لإيران في منظمة شنغهاي للتعاون. ومن شأن المزيد من الضغط على إيران أن يدفع البلاد ذات التوجه الغربي تاريخيًا إلى منظمة شانغهاى للتعاون، وتغيير توازن القوى العالمي، وهذا ليس في صالح الولايات المتحدة.
وليس من الصعب أن نفهم أنّ الدبلوماسية في إطار التعاون متعدد الأطراف توفر مزيدًا من الصعود بتكلفة أقل من المنافسة الصفرية المستمرة. وقد ينجح الاستثمار في الانفراجة بين المملكة العربية السعودية وإيران، وإقناع (إسرائيل) بإيجاد حلٍ عادلٍ ومستدام لفلسطين، مع احترام اتفاقيات مثل خطة العمل الشاملة المشتركة، في إبقاء القنوات التجارية مفتوحة، وتعزيز ثقافة القانون المدني بالتأكيد، ويقلل من تأثير الإرهاب الأيديولوجي على الصعيد العالمي، ويعزز بالتالي الأمن والاقتصاد العالميين.
هاف بوست- ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد-