صبحي حديدي- القدس العربي-
قد يصحّ القول إنّ الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز يتحمّل اليوم ــ من تحت الثرى بالطبع، وبمفعول رجعي ــ ثمناً باهظاً لقاء مناورة لاح أنها بارعة وحاسمة؛ خاصة بعد تقديمها في صورة خطوة «إصلاحية»، لتنظيم تناقل العرش داخل ذرية عبد العزيز بن سعود. وبالفعل، بدا أنّ إصدار «نظام هيئة البيعة»، خريف 2006، خصوصاً تعديل الفقرة ج من المادة الخامسة لنظام الحكم (والتي تسحب من الملك صلاحية تسمية وليّ العهد، وتسنده إلى هيئة البيعة)؛ خطوة تعديل حاسمة من طراز غير مسبوق في المملكة.
لكنها كانت ناقصة، ابتداءً من منطق صلاحياتها ذاته، لأنّ الملك هو الذي يقترح على أعضاء الهيئة اسم، أو أسماء، المرشحين لولاية العهد، حتى إذا كان النظام الجديد يمنح الهيئة حقّ رفض اقتراحات الملك، واختيار مرشح آخر.
ولقد توفّر، مع ذلك، هامش مناورة مزدوج النتيجة، لأنه أتاح إمكانية المزيد من الاتفاق بين الأمراء، أو المزيد من الشقاق والخروج على إرادة الملك؛ وهذه حال لم تكن متوفرة في الماضي، أو كانت تتمّ في الخفاء وخلف جدران القصور السميكة الكاتمة للأسرار. هذا، بالطبع، إذا استبعدنا حقيقة أنّ مرض الملك (وهو تطوّر شبه دائم في حياة ملوك السعودية) قد يعيقه عن القرار عملياً، رغم بقائه على رأس الحكم وفي سدّة القرار؛ كما حدث مع الملك فهد طيلة العقد الأخير من حياته، حين أصيب بجلطة في الدماغ، وعهد بتصريف شؤون المملكة إلى أخيه الأمير عبد الله، وليّ العهد في حينه.
هنالك، إلى هذا، حقيقة عتيقة راسخة انتقصت من الطبيعة «الإصلاحية» لهذه الخطوة؛ وهي أنّ أوالية التوريث والخلافة في المملكة ليست دائماً بالسلاسة التي تبدو عليها في الظاهر، من جهة؛ وهي، من جهة ثانية، يندر أن تأخذ صيغة سيرورة سياسية قائمة على توازنات القوّة ومحاصصة النفوذ وحدها، لأنها أيضاً مسألة اجتماعية تضرب بجذورها عميقاً في نواظم المجتمع السعودي، وهياكله القبائلية والمناطقية.
في عبارة أخرى، لم يكن واضحاً ــ على الدوام في الواقع، وحتى بعد تأسيس «هيئة البيعة» ــ ما إذا كانت فلسفة الخلافة في المملكة قد ضربت صفحاً عن معظم، أو حتى بعض، تلك القواعد الصارمة، البسيطة تماماً مع ذلك، التي وضعها ابن سعود في عام 1933؛ حين اندلعت نزاعات الأبناء، وقرّر الملك المؤسس توريث سعود وفيصل في آن معاً، لكي يقرّر ضمناً أن مبدأ الشراكة المعلنة هو القاعدة الناظمة للولاء العائلي.
هذا هو بعض السبب في أنّ مبايعة الأمير عبد الله، صيف 2005، بدت سلسة ويسيرة وخالية من أية عواقب دراماتيكية آنية. صحيح أنه لم يكن عضواً في نادي «السديريين السبعة»، وهو أخ غير شقيق لهم؛ والملك الراحل نفسه، فهد، كان في العام 1992 قد انفرد بتثبيت مبدأ مبايعة العضو «الأقدر» و«الأرشد» بين أبناء عبد العزيز (مما أعطى سقيفة المبايعة صلاحيات الطعن في قدرة، أو رشد، أي عضو مرشح بحكم السنّ، أو أقدمية التسلسل في الخلافة، أو حتى ولاية العهد بموجب إرادات سابقة واضحة).
لكن من الصحيح، في المقابل، أنّ الملك الذي تُوّج كان النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء بقرار من الملك خالد، وكان ولي العهد، والنائب الأوّل، وقائد الحرس الوطني (75 ألف مقاتل، بتدريب أمريكي رفيع)، وأبرز المتحالفين مع عشائر شمّر التي تمتد أفخاذها حتى مثلث الحدود التركية ـ السورية ـ العراقية.
ليس واضحاً، تالياً واستطراداً، ما إذا كانت قواعد الخلافة السابقة، مثل أية قواعد لاحقة، قادرة على إسقاط المبدأ الآخر في تحكيم الوراثة؛ أي إقامة ميزان الذهب بين القبيلة والفتوى والدولة، وبين السلطة القبلية وسلطة الإفتاء والسلطة المركزية، أياً كان المحتوى الفعلي لهذه الأخيرة.
وهكذا فإنّ صيغة التعاقد، بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية، فرضت على آل سعود اعتماد مزيج من سياسات «إدارة» العقد؛ مثل إضعاف الامتيازات القبلية، وتوطيد القرابات والولاءات، ودعم الأسس الإدارية والبيروقراطية الضرورية، وإتمام الزواج (الناجح، أو حتى ذاك القائم على المصلحة المشتركة) بين هذه الأسس شركات النفط العملاقة، واستيراد التكنولوجيا، والمضيّ قدماً في التحالفات الإقليمية والدولية، وتطبيق استراتيجية أمنية انعزالية وجامدة ووقائية… كل هذا، في آن معاً!
وكانت أربعة عقود من التصارع بين السلطة القبلية وسلطة الفتوى والسلطة المركزية قد أقنعت ابن سعود باستحالة إغفال أيّ منها لصالح أخرى، فأوصى أبناءه بإدامة التوازن الدقيق، وبذل آخر ما تبقى في جعبته من حنكة سياسية في ضمان خطّ تعاقبي آمن في وراثة العرش.
لكنّ تحوّل المملكة إلى منتج أساسي للنفط في عهد الملك سعود، وتجاوز سقف المليون برميل يومياً، أسند للعائدات النفطية وظيفة سوسيولوجية جديدة وخطيرة هي تدمير هياكل التوازن التي شيّدها ابن سعود؛ خصوصاً ذلك التشارك القلق بين القِيَم القبلية، وأصول الدين، ونظام الإدارة.
الخبرة التي راكمتها الأسرة الحاكمة في تدبير الشأن القبلي لم تستطع تقديم إجابات ملائمة على أسئلة وتحديات العمران والتحديث (التي أضعفت الأواصر القبلية، بالضرورة)؛ وتوزيع عائدات النفط (التي ضاعفت إيقاع الولاءات الشخصية، وعلاقات الاستزلام)؛ والظواهر السياسية الإقليمية والدولية، خاصة في ظل المدّ القومي العربي، واشتداد الحرب الباردة، قبيل الثورة الخمينية وصعود الإسلام السياسي.
ولكن المعادلة كانت مسقوفة، أو محتومة بمعنى ما، ولم يكن في وسع المملكة أن تواصل انشطارها العميق والمؤلم بين حاجات المجتمع والحياة، وبين تركة الزواج القسري الذي جمع المؤسسة والقبيلة.
من جانب آخر كانت سيرورة ارتهان المملكة للسياسة الأمريكية (من الإنفاق على الانتخابات البلدية الإيطالية لكي لا ينجح الشيوعيون، إلى تحالف حفر الباطن واستقدام القوّات الأمريكية، إلى غزو العراق 2003، وصولاً إلى عقود التسليح والاستثمار التي حصدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته الأخيرة…)؛ تخلق وقائعها وظواهرها الرديفة أو المكمّلة، التي لم تكن دائماً تأتي برياح تلائم سفائن آل سعود: من استيلاد «الأفغان العرب»، إلى الـ 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً نفّذوا هجمات 9/11، مروراً بالتورط التمويلي مع بعض فصائل المعارضة الإسلامية في سوريا، والتورط العسكري المباشر في اليمن.
تولية محمد بن سلمان تعيد عقارب الساعة إلى ذلك السقف المحتوم، رغم أنها توحي بتقديم الزمن إلى 2030، (ليس أقلّ!)، ورغم ما تنطوي عليه من «دغدغة» لما سُمّيت بـ«القوى الليبرالية» و«التكنوقراط»؛ على نقيض (يُصوّر، هنا أيضاً، على أنه تناغم مع) المؤسسة الدينية الوهابية.
قبل أن تنطلق مشاريع وليّ العهد، الثلاثيني، نحو عقد الثلاثينيات؛ ثمة مشهد آخر رديف، تصعب إزالة عناصره عن المعادلة: اهتزاز شرعية آل سعود الدينية والسياسية، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، ومشكلات البطالة وانخفاض الدخل الفردي، ارتفاع المديونية العامة، وعشرات المشكلات الاجتماعية والسياسية الأخرى.
والتولية تعيد آل سعود إلى حصاد ما بعد مناورة «هيئة البيعة»، حين رحل صانعها الملك عبد الله، وأُبطلت ولاية عهد مقرن بن عبد العزيز، ثمّ محمد بن نايف اليوم؛ الأمر الذي لا يشير إلى أنّ هذه الهيئة حبر على ورق، فحسب؛ بل لعلها لم تُكتب بمداد، بل برمال متحركة، رخوة وهلامية، فاتحة كسور وصدوع وهزّات، داخل المملكة وخارجها. ما خلا أنّ الناس ليست دائماً على دين ملوكها، وبالتالي قد يكون الآتي أعظم مما تقدّم، وأبعد أثراً وعاقبة.