د. عبد الوهاب الأفندي- العربي الجديد-
عندما قرّرت ثلاث دول خليجية سحب سفرائها من الدوحة في مارس/ آذار 2014، كتبت معلقاً أن مشكلة هذه الدول لم تكن قطر وإنما مصر. فقد راهن بعضها، بكل ما لديه، على نجاح انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، ورصد لدعمه موارده وإمكاناته الإعلامية السياسية. ولكن الانقلاب، ومعه مغامراتٌ أخرى دخلت فيها تلك الدول في أكثر من بلد، تحول إلى عبءٍ يستنزف تلك الإمكانات، بدون أي مكاسب في الأفق.
وقد قرّرت هذه الدول أن ترمي باللوم في فشلها على دولة قطر من جهة، وعلى الإسلاميين من جهة أخرى. وهو وهمٌ مركّب، فالفشل المحتوم لهذه المغامرة لم يكن يحتاج لقطر وقناة الجزيرة، فقطر لم تخترع الإعلام الحديث، والإسلاميون لم يخترعوا الديمقراطية وتوق الشعوب إلى الحرية. وقلت، حينها، إن المرجّح أن النظام الانقلابي سينهار، ويجر معه دول الخليج الداعمة له إلى الهاوية.
ويبدو أن هذا السيناريو يتحقّق بصورةٍ فاقت التوقعات، حيث نجد أن تورّط التحالف السعودي الإماراتي في مصر هو سبب مشكلاتها، وأساس مغامراتها الخاسرة في مناطق أخرى، فمصر السيسي هي التي وقفت ضد دول الخليج في سورية واليمن، وهي التي انحازت إلى إيران ودعمت حلفاءها في العراق.
فنظام السيسي يتكسّب من دعم دول الخليج له، ويتكسّب من دعم أعدائها وابتزازها بذلك. فلم تعد مصر عبئاً على دول الخليج فقط، بل صارت من أكبر أسباب فشلها في اليمن وليبيا وسورية والعراق.
ومع ذلك، زادت الإمارات والسعودية العبء بطرح نفسيهما في هذه المرحلة باعتبارهما المحارب الأول للإسلام السياسي في العالم، والعدو الأكبر للديمقراطية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، والمتصدّي الأكبر للجم نفوذ إيران في المنطقة. وقد أدخلت هذه المشاريع الدول في تحالفاتٍ إشكالية، كما هو الحال في ليبيا ومصر واليمن والصومال والعراق، وفلسطين.
وقد تدخلت الإمارات بأموال طائلة لدعم مرشح رئاسي في الانتخابات الصومالية أخيرا، فهزم المرشح من منافسٍ لم يحظ بأي دعم مالي وسياسي من الخارج. ولم تكتف الدول بذلك، بل تريد أن تصبح متعهد التطبيع مع إسرائيل، والخادم الأول لسياسة دونالد ترامب المعادية للإسلام والمسلمين. وكل مشروعٍ من هذه يخلق أعباء تقطعت دونها أعناق دولٍ أشدّ مراساً وأكثر نفيراً.
وتجمع هذه المشاريع الدونكيشوتية بين فكرة مصطفى كمال (أتاتورك) في استئصال الإسلام من الساحة العامة وأوهام العقيد معمر القذافي في نشر ثورته العالمية وكتابه الأخضر في مشارق الأرض ومغاربها، وأحلام جورج بوش في فرض الهيمنة الأميركية بقوة السلاح.
هذا مع الفرق، فمصطفى كمال كان بطلاً عسكرياً، حقق انتصاراتٍ أعادت لتركيا عزتها وكرامتها. مع ذلك، فإن مصير مشروعه كان الفشل، حيث إن تركيا يحكمها حزبٌ ما كان أتاتورك يتصوّر مجرد وجوده، ناهيك عن انتصاره وهيمنته.
أما فشل مشروع القذافي فلا يحتاج إلى شواهد. وفوق ذلك، ليست لدى الدول التي تتورط في هذه المغامرات المتداخلة إمكانات مصطفى كمال الفكرية وقدراته العسكرية، بل لا تستطيع جيوشها حتى الدفاع عن حدودها، ما دفعها إلى الاستعانة بجهاتٍ خارجيةٍ بالمقاولات، فهذه دولٌ تتحدث بلسان قوة عظمى، بينما لا تملك إمكانات دول هامشية، مثل باكستان أو الجزائر. وهي بهذا تورد نفسها موارد التهلكة.
لكن أخطر مغامرةٍ، وأكثرها تكلفةً، هي مغامرة هذه الدول في مصر، فمشروع الانقلاب المصري استنزف منها موارد مالية هائلة، وما يزال ينادي هل من مزيد. والمحاولة اليائسة للاستيلاء على أموال قطر من أجل حشدها لدعم ذلك المشروع الفاشل لن تفيد شيئا.
لأن العدوان الجاري على قطر يهدّد مشروعية هذه الدول، وسيفتح عليها الأبواب نفسها التي تسعى إلى إغلاقها، فهي أرادت إسكات صوت قطر، حفاظاً على أوضاعها الداخلية الهشّة، ولكنها، بهذه المغامرة الهوجاء، أطلقت الآن لسان صحافة العالم كله، تحفر وتنقب في الأوضاع الإشكالية في هذه الدول. وستزداد هذه التنقيبات كثافةً وعمقاً، كلما طال أمد الأزمة.
وعليه، من مصلحة هذه الدول، قبل غيرها، أن تسدل الستار على هذه الأزمة المفتعلة بأسرع ما يمكن. ولعل أكبر مشكلةٍ في مثل هذه الحالات أن من يسلك طريق إسكات كل الأصوات، إلا صوت الرضا، يكون كمن فقأ عينيه بيديه، لأنه يطلق العنان فقط للمديح الكاذب مدفوع الثمن، ويصم الآذان عن سماع الناصحين. وهكذا، لا يجد من ينبهه إلى الهاوية السحيقة التي يهرول تجاهها، بل سيصيح كل المنافقين يستعجلونه الإسراع باتجاه المنحدر، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فالحملة على قطر بدأت بالكذب، وهي تغذّى كل يوم بأكاذيب جديدة، يُخادع بها من يطلقها الله والعالمين، وما يخدعون إلا أنفسهم. والحال كذلك في مصر، أم المهازل والمصائب، التي قام الانقلاب فيها على أكاذيب مموّلة خليجياً، وغرقت مع إعلام النفاق في بحرٍ، لا ساحل له، من الأوهام والأكاذيب. ولو استمر الحال على ما هو عليه، سيكون الانهيار الشامل النتيجة، ولن تكون مصر وحدها التي ستنجرف إلى الهاوية.
وعليه، لا بد أن يبدأ الحل للأزمة الخليجية الحالية من صحوةٍ يكون محورها مصر، وتبدأ من إدراك خطل إشعال الحرب الأهلية هناك، وتقسيم أهلها شيعاً تستضعف طائفةً منهم، كما كان الحال في أيام فرعون مصر الذي جعله الله تعالى عبرةً لمن اعتبر، وجعله ومن شايعه أئمة يدعون إلى النار، فهذه الطرق مهلكة حتمية.
والحل في طرح مبادرةٍ للسلم الأهلي في مصر، تدعو إلى حوارٍ تشرف عليه جهات دولية بدعم خليجي، من أجل الوصول إلى حل وفاقي، يخرج البلاد من أزمتها.
والمعروف أن انقلاب يوليو 2103 بنى مشروعيته على فكرة "خارطة للمستقبل"، تقوم على إشراك كل طوائف المجتمع المصري في حوارٍ ينتهي بانتخاباتٍ ديمقراطية حرة ونزيهة، وإلى ضمان حرية الإعلام وحقوق الشعب المصري.
لكن الانقلابيين تنكّروا لكل هذه الوعود. وبدلاً من ذلك، سفكوا الدماء وقاموا بتكميم الأفواه وتعميم الكذب والفساد. واستمرار بعض دول الخليج في بناء شرعيتها على دعم هذا الوضع يجعلها كمن يبني بنيانه على شفا جرفٍ هار.
ولأن الخلاف حول مصر، والخوف من عواقب انهيار نظامها على دول الخليج التي ربطت مصيرها به، هو لبّ الأزمة الخليجية الحالية، فإن توافق هذه الدول على مقترحاتٍ تجنب مصر الانهيار والاحتراب، وتضمن استقرارها عبر توافق أبنائها، هو الحل الجذري لهذه الأزمة.
على هذه الدول الدخول في حوار هادئ، ينتج عنه مقترحٌ لإخراج مصر من أزمتها، عبر توافق أبنائها، ورفع المظالم، وتضميد الجراح.
عندها، يمكن لدول الخليج مجتمعةً دعم الاستقرار في مصر، وليس دعم الحرب، الخاسرة حتماً، على الشعب المصري.