علاقات » خليجي

الاتحاد النقدي الخليجي: الحلم الذي لا يتذكره أحد

في 2018/12/03

صباح نعوش- البيت الخليجي-

تعود فكرة العملة الخليجية الموحدة إلى الاتفاقية الاقتصادية لعام 1981م التي نصت في مادتها الثانية والعشرين على “العمل على توحيد العملة لتكون متممة للتكامل الاقتصادي المنشود”. ولكن الخطوة الأولى بهذا الاتجاه لم تتخذ إلا في عام 2008 بتوقيع أربع دول (السعودية والكويت وقطر والبحرين) على اتفاقية الاتحاد النقدي الخليجي. ولا تزال العملة الموحدة بعيدة المنال بسبب المشاكل البينية.

وإلى جانب العامل السياسي غير المشجع، لم تبذل البلدان الخليجية أي جهد في سبيل الاعتماد على معايير تقارب اقتصادية نابعة من خصوصياتها. ولحد الآن تتلخص منجزاتها في اقتباس المبادئ التي قام عليها الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي (منطقة اليورو).

استنساخ معايير التقارب

يتضمن مشروع قرار التقارب خمسة معايير. نقل معيار التضخم ومعيار الدين العام حرفياً من منطقة اليورو. أما المعايير الأخرى فتتناول العجز المالي وأسعار الفائدة والاحتياطي النقدي.

العجز المالي

“يجب أن لا تزيد نسبة العجز السنوي في أي من الدول الأعضاء عن 3% طالما كان متوسط سعر نفط سلة أوبك 25 دولاراً فأكثر. وفي حالة انخفاض سعر النفط عن ذلك يصبح السقف الأعلى لنسبة العجز السنوي مساوياً ل 3% زائداً ثلاثة أضعاف التغير النسبي المئوي المطلق”.

ما هي الأسس التي استند إليها واضعو هذا المعيار؟ لماذا النص على 3% وليس على أية نسبة أخرى؟ في الواقع ترتبط هذه النسبة ارتباطاً وثيقاً بالسياستين الألمانية والفرنسية. فقد أبدت كل من ألمانيا وفرنسا رغبتهما في عدم تجاوز الديون العامة عن 60% من الناتج المحلي الإجمالي. وحسب الدراسات في البلدين يتحقق ذلك عندما تقل نسبة العجز المالي عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى هذا الأساس فرضت هاتين الدولتين هذه النسبة على بقية دول منطقة اليورو سواء في معايير التقارب أم في ميثاق الاستقرار والنمو.

هذا المعيار لا يمت بأية صلة بالوضع المالي الخليجي بل نقل حرفياً من منطقة اليورو.

لكن الخليجيين وضعوا شرطاً غير معروف في هذه المنطقة وهو أن لا يقل سعر برميل النفط عن 25 دولاراً. انهم يسمحون إذن بأن يصل العجز المالي إلى أكثر من النسبة المذكورة في حالة هبوط أسعار النفط إلى أقل من هذا المبلغ.

بسبب هذا الشرط ترتبط العملة الموحدة بالسوق العالمية. في حين يفترض أن يكون الارتباط بالدرجة الأولى بالسياسات المالية والنقدية الداخلية.

ومن ناحية أخرى لا تقتصر حالة الميزانية على سعر البرميل بل تعتمد أيضاً على عوامل عديدة تخص الإيرادات الأخرى والنفقات العامة. وبالتالي قد يتجاوز العجز المالي 3% حتى في حالة ارتفاع أسعار النفط. ففي السعودية قدر حجم العجز لعام 2019 بمبلغ 195 مليار ريال أي 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي. في حين يبلغ سعر النفط 56 دولاراً.

تفضل دول مجلس التعاون الاستدانة بدلاً من تقليص نفقاتها العادية خاصة العسكرية والأمنية التي تحتل المرتبة الأولى في ميزانياتها. بسبب هذه السياسة ترتفع الديون العامة ويزداد بالتالي العجز المالي. ويرتفع العجز المالي فتزداد الديون العامة. حلقة مفرغة يتعذر معها تطبيق معايير التقارب.

أسعار الفائدة

ينص مشروع قرار التقارب على ما يلي: “يجب أن لا يزيد سعر الفائدة في أي منها عن متوسط أدنى ثلاثة أسعار الفائدة قصيرة الأجل (لمدة ثلاثة أشهر) في دول المجلس زائداً نقطتين مئويتين (2%).

النص منقول عن منطقة اليورو من حيث القيم التي يقوم عليها. لكنه نقل غير موفق لأن المعيار الخليجي يتناول أسعار الفائدة قصيرة الأجل. فمن المعلوم أن العملات الخليجية الحالية والعملة الموحدة المستقبلية مرتبطة بسعر ثابت بالدولار. هذه سمة نقدية أساسية لا تتنازل عنها بلدان المجلس. ويستوجب هذا الربط الثابت تحديد أسعار الفائدة في الخليج وفق سياسة البنك الفيدرالي الأمريكي مع هامش ضيق جداً. فلا يجوز أساساً أن تكون أسعار الفائدة الخليجية أعلى أو أقل من سعر الفائدة على الدولار. لذلك لا معنى لهذا المعيار.

في حين أن الحكمة من معيار أسعار الفائدة في منطقة اليورو هي بذل الجهود في سبيل تقليصها. إذ يقود ارتفاعها إلى صعوبة حصول الأفراد والشركات على القروض للقيام بالأنشطة الاقتصادية المختلفة. وبالتالي يتراجع الطلب فينخفض النمو. وقد وضع المعيار الأوروبي للآجال الطويلة وليست القصيرة.

الاحتياطي النقدي

ينص مشروع القرار على ما يلي: “يجب أن تكون احتياطيات السلطة النقدية في كل دولة من الدول الأعضاء كافية لتغطية وارداتها السلعية لمدة لا تقل عن أربعة أشهر”.

وهذا هو المعيار الوحيد غير المنقول عن منطقة اليورو لعدم وجوده فيها. يتعين الإشادة بهذه الخطوة لأن الاحتياطي النقدي في دول المجلس يلعب دوراً مهماً من ثلاث زوايا:

من الزاوية النقدية الاحتياطي النقدي هو السلاح الرئيس للمصرف المركزي الخليجي في الدفاع عن سعر الصرف الثابت مقابل الدولار. في حين يعتمد البنك المركزي الأوروبي بصورة أساسية على أسعار الفائدة. علماً بأن المهمة الأساسية لهذا البنك كبح جماح التضخم وليس الدفاع عن العملة.

ومن الزاوية المالية يستخدم الاحتياطي النقدي بصورة واسعة في بلدان الخليج لتمويل العجز المالي. في حين تعتمد دول منطقة اليورو على القروض.

ومن الزاوية التجارية يتأتى الاحتياطي النقدي من الفوائض التجارية لميزان المدفوعات. وبالتالي يدعم هذا المعيار الجهود في سبيل تحسين صادرات السلع والخدمات.

وانطلاقاً من هذه الزاوية نستنتج بأن معايير التقارب الخليجية ينقصها معيار آخر يرتبط بالتجارة الخارجية لأن اقتصاد هذه الدول وماليتها وأنشطتها تتصل مباشرة بالصادرات. حيث تتوقف سلامة المؤشرات الاقتصادية على فائض الميزان التجاري السلعي. حسابات الخدمات والدخول تعاني من عجز كبير ومزمن. وبالتالي إن لم يستطع فائض الميزان التجاري تمويل هذا العجز هبط الاحتياطي النقدي وما يترتب عليه من نتائج نقدية ومالية وتجارية وخيمة.

وعلى هذا الأساس يتعين على دول المجلس الاعتماد على معيار تجاري يتصل بعلاقة الفائض التجاري بالناتج المحلي الإجمالي.

غياب الإرادة السياسية

يرى البعض ضرورة ارتكاز الاتحاد النقدي الخليجي على معايير اقتصادية متينة كما هو الحال في منطقة اليورو. أما إذا قام على مجرد رغبات الحكام فسيكون مصيره الفشل.

والواقع من الخطأ الاعتقاد بأن الاتحاد النقدي الأوروبي اعتمد على أسس اقتصادية وأهمل الجانب السياسي. بل العكس اكثر صواباً. فمعايير التقارب كانت تنطبق على عدد قليل من دوله. ومع ذلك نجحت منطقة اليورو رغم مشاكلها لأن الرغبة السياسية متوفرة بل طغت حتى على التقارب الاقتصادي. دول عديدة كبلجيكا وإيطاليا ومن ثم اليونان لم تستطع الاستجابة لأغلب معايير التقارب ومع ذلك دخلت إلى منطقة اليورو.

أما في دول المجلس ورغم توفر اغلب معايير التقارب تقف الإرادة السياسية حجر عثرة في طريق الاتحاد النقدي. والأخطر من ذلك وجود خلافات سياسية حادة حاليا باتت تهدد جميع المؤسسات المشتركة. وفي مقدمة هذه الخلافات خروج كل من عمان والإمارات من الاتحاد النقدي الخليجي. وكذلك الحصار الاقتصادي والمقاطعة الدبلوماسية ضد قطر.

الالتزامات المالية

ينص مشروع قرار التقارب على ما يلي: “تلزم الدول الأعضاء باستيفاء هذه المعايير النقدية والمالية بنهاية عام 2007…. وتستمر في الالتزام بالمعايير المالية (عجز الميزانية والدين العام) قبل وبعد قيام الاتحاد النقدي”.

هذا الحكم منقول أيضاً من منطقة اليورو التي تستوجب انطباق جميع المعايير لحين ظهور الاتحاد النقدي. ثم تم الاتفاق على “ميثاق الاستقرار والنمو” بعد قيام هذا الاتحاد ويتضمن ضرورة احترام معيار العجز المالي والدين العام.

لكن اتفاقية الاتحاد النقدي الخليجي, من هذا الجانب, تختلف عن منطقة اليورو على الأقل من ناحيتين:

فمن ناحية تسمح منطقة اليورو للدولة في حالات استثنائية أن يتجاوز عجزها المالية 3% من الناتج المحلي الإجمالي. والحالة تعد استثنائية إذا هبط معدل النمو بنسبة تفوق 2%. وهذا ما حدث في عدة دول أوروبية في عام 2009. في حين لا توجد في الاتفاقية الخليجية إشارة إلى هذه الحالات الاستثنائية. وهذا خطأ فادح لأن النمو قد يهبط بنسبة عالية حتى وإن كان سعر النفط أعلى من 25 دولاراً للبرميل.

ومن ناحية ثانية يترتب على عدم احترام ميثاق الاستقرار والنمو في أوروبا غرامات مالية تتراوح بين 0.2% و 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي. في حين لا توجد أية إشارة إلى مثل هذه العقوبات في الاتفاقية الخليجية.

خروج الإمارات

اختار الأوربيون مقرات مؤسساتهم المشتركة وفق اتفاقات بينية. مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت. لكن الكثير من المؤسسات الأوروبية المهمة لا تقع في الدول الأوروبية الكبرى بل في بلجيكا ولكسمبورغ.

أبدت الإمارات رغبتها في استضافة المصرف المركزي الخليجي نظراً لسمعتها الدولية المرموقة من الناحية المصرفية. لكن المادة الثانية من النظام الأساسي للمجلس النقدي اتخذت في فقرتها الثانية من الرياض مقراً لهذا المجلس أي للبنك المركزي لاحقاً.

وهكذا انسحبت الإمارات من اتفاقية الاتحاد النقدي. الأمر الذي يشير إلى وجود خلل في مواجهة الخلافات. فمن جهة كان على السعودية أن لا تضحي بالإمارات من اجل المقر. وكان على الإمارات عدم الانسحاب لمجرد الخلاف حول المقر.

لكن المؤشرات تدل على مشكلة اكبر. فقد خرجت الإمارات من الاتفاقية بسبب الأزمة التي عصفت بها وأضرت بشدة باقتصادها خاصة في الميدان العقاري. لمعالجة هذه الأزمة تحتاج الدولة إلى قرارات سريعة ومركزية. لذلك كان الخلاف حول المقر ذريعة للانسحاب من الاتحاد النقدي.

ولكن انتهت الأزمة ولم تعد الإمارات. الأمر الذي يشير إلى تذمرها من غياب البرنامج الزمني للوصول إلى العملة الموحدة ومن بعض معايير التقارب.

يجب على الخليجيين الاعتماد على معايير تتناسب مع خصوصياتهم. كما يتعين عليهم التصدي وبسرعة لمشاكلهم السياسية والاقتصادية. فقد دلت تجربة اليورو على أن العملة الموحدة ثمرة تعاون وثيق وتبادل تجاري واسع ومصالح مشتركة.