محمد جميل- البيت الخليجي-
مجددًا وانسجامًا مع كل التوقعات، عادت نوبات التعثر المزمن في الأسابيع الماضية لتضرب مسار المصالحة الداخلية بين كل من حركتي فتح وحماس، ولتضع حدا لحالة التفاؤل – الغير مبرر بحسب البعض – المشوب بالقلق التي كانت كلا الحركتين خلال العام الماضي تحاول إشاعتها على الأقل لدى الفلسطينيين، والتي لم يسندها على الأرض سوى بعض الإجراءات الرمزية في قطاع غزة وشيء من الانضباط المتقطع في السجال الإعلامي بين الفصيلين الأكبر في الساحة الفلسطينية.
التعثر المذكور جاء محمولا على خطوات تصعيد سياسي غير مسبوقة بين الطرفين، أبرزها تبادل سحب الأهلية والشرعية السياسية، حيث أعلن الرئيس الفلسطيني حله للمجلس التشريعي الفلسطيني، فردت حركة حماس عبر أكثريتها النيابية في المجلس المحلول بنزع الأهلية القانونية والسياسية عن رئيس السلطة الفلسطينية. مع ما رافق هذه الخطوات من سعار خطابي في كيل كل طرف الاتهامات للطرف الآخر لم يوفر حتى تراشق الاتهام بالجنون والعمالة لإسرائيل عبر وسائل الإعلام واللقاءات الشعبية.
كلمة السر
قبل عام من الآن، كانت جهود الوفود الأمنية المصرية قد وصلت ذروتها في محاولات رأب الصدع بين كل من حركتي فتح وحماس وأسفرت عن وضع اتفاق مقترن بجدول زمني انتُهك تسلسل مواعيده منذ الأسبوع الأول. قيل في حينه أن الأمر يندرج ضمن سلسلة التحركات النشطة في الإقليم والتي اشتملت على تسعير الاحتقان القائم بين “محور الاعتدال العربي” الذي تتزعمه السعودية ويضم بشكل أساسي كلا من مصر والإمارات المتحدة من جهة، وقطر وبقدر ما تركيا من جهة ثانية، وإيران وما يعتبره المحور المذكور توابع لها من ثالثة. هذا وبالإضافة إلى سلسلة أحداث درامية أهمها كان احتجاز ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لقسم معتبر من أبناء عمومته من أمراء الأسرة المالكة وبصحبتهم نخبة من ألمع رجال المال في المملكة، ليزيد عليهم في وقت لاحق في حادثة فاقت تفاصيلها كل خيال، رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بعد إجباره على تلاوة بيان استقالته التي سرعان ما عاد الأخير عنها فور خروجه من الرياض إثر حملة وساطات عربية ودولية.
في معرض التفسير لسلسلة الأحداث المتتابعة سواء كان ذلك بالجملة أو لدى التعرض لكل حادثة منها على حدا، كانت هناك كلمة سر يرمز لها ب “صفقة القرن” يجري تداولها من دون أن تحمل أي دلالات محددة أو أن تتضح مراجعها ومقاصدها، والتي وفي بعض أوجه استخداماتها أُريدَ لها فض أي بحث لجدوى هذا الهيجان ودوافع أصحابه، وأي مسعى يحاول نظم الأحداث في سلسلة عقلانية تعين على شيء من الفهم لها.
الصفقة ورجالاتها
على غرار من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة، وفيما يبدو أنه قد بات تقليدًا رئاسيًا يمارسه كل ساكن جديد للبيت الأبيض، شعر الرئيس دونالد ترامب في لحظة ما بأن عليه أن يطلق مشروعه الخاص لحل ما تم التعارف على مدار العقود الماضية بتسميته “الصراع في الشرق الأوسط”. الآن وبعد سنتين على إعلان الرئيس الأمريكي عن صفقته للقرن، وفيما عدا الاسم الصاخب الذي اختاره لها، لا يبدو أن صاحب الإعلان عن الصفقة يحمل في ذهنه أي تصورات محددة تتجاوز ما يظهر حينا ويستتر حينا آخر من سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبخاصة ممثلتها وأداتها الرئيسية فيه إسرائيل. وبالتالي فإنه وكما جرت العادة تاريخيا لدى إطلاق أي مقترحات حلول تتعلق بالقضية الفلسطينية، تصبح المبادرة الأمريكية التي سرعان ما تتحول إلى مشروع دولي مجرد غطاء اسمي يظلل ويشرّع السياسات الإسرائيلية من طرف واحد على الأرض حتى وإن تناقضت مع بنود المشروع الدولي الأمريكي سابقا والإسرائيلي أصلا وفصلا. غير أن الجديد في الإعلان عن الصفقة هذه المرة يمكن حصره في مسألتين أساسيتين:
الأولى، أن الإعلان الأمريكي هذه المرة جاء مبهما خال من أي شروحات ومطاطا ويحتمل ألف تأويل، ما سمح بإدراج أي قضية وأي إجراء ضمن مقتضياته، فبات نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس تمهيد للصفقة، وحجز الأمراء السعوديين في فندق الريتز كذلك، بل إن التأويلات إتسعت للقول بأن التعاقد مع فرق المرتزقة الدولية لذبح المدنيين في اليمن جزء من الحل الذي تقترحه الصفقة!
الثانية وربما الأهم، هي انه ولأول مرة، فإن الطرف الفلسطيني ولو شكليا لم يكن هو العنوان الرئيسي المُخاطب في هذه الصفقة، بل إن الطريقة التي تعاملت فيها بقية الأطراف العربية معها، كانت توحي بان القيادة الرسمية الفلسطينية وتحفظاتها المعلنة على ما قيل أنها تسريبات لبعض بنودها عنصر هامشي وربما مستبعد من أي طاولة بحث مفترضة، وأن ما من خيار أمام الأخيرة سوى الامتثال لما ستقرره شقيقاتها الكبرى. وبذلك فإن التفاعل مع أحاديث الصفقة جرى تصويره وكأنه مشروع قائم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والمملكة السعودية وتحديدا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي صوره الإعلام المرتبط به كمهندس ميداني سيتولى شخصيا تنفيذ مختلف مراحل المشروع المزعوم بالشراكة مع “صديقه” صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنير. وهو أمر يبدو مفهوما لو عدنا بالتأريخ لهذا الفصل الجديد من الحراك السياسي المراد له أن يكون فصلا ختاميا يغلق كل الملفات في الإقليم، إلى ما سبق إعلان الرئيس ترامب وتحديدا إلى مرحلة سلفه الرئيس السابق باراك أوباما، عند اللحظة التي بدأ الأخير يتأفف فيها من الانتشار العسكري السياسي والأمريكي المباشر في منطقة الشرق الأوسط ويبشر بانسحاب أمريكي ظاهري منه، قيل وقتها أنه وإلى جانب أن الأمر تحديث مطلوب لإستراتيجيات أميركا الدولية في العالم وتعيين جديد لسلم أولوياتها، فهو يخدم نظرية تفترض بان الفراغ الذي سيخلفه هذا الانسحاب سيضائل من المسافة التي تفصل بين إسرائيل وباقي جوارها العربي، ويدفع مختلف الأطراف الخليجية منها على وجه الخصوص وتحت ضغط التناقضات الإقليمية الأخرى القائمة، إلى السير مضطرة لخلق توافق للتعايش المشترك مع إسرائيل، غني عن البيان أنه لن يتجاوز المحددات التي ستترجمها حقائق موازين القوى بينها.
الصفقة الحقيقية
توفر إسرائيل مدخلا مفتاحيا يعين على شرح وتعريف ما يجري في الشرق الأوسط. ببساطة وانطلاقا في البحث من إسرائيل كنقطة للبداية، فإن الأخيرة باتت في غير وارد ترسيم أي اتفاق مع الفلسطينيين مهما أجحف بحقوقهم الوطنية. فما حاجتها إلى ذلك طالما أن الحقائق المادية التي تخلقها على الأرض حتى وإن أثارت في اللحظة الأولى حنقًا إقليميًا ودوليًا عليها، سرعان ما سيتم الإقرار بها كمعطيات جديدة لا سبيل للعودة عنها، لتعود كل الأطراف الأخرى وتكيّف مواقفها بما يتناسب مع ما يستجد من هذه الحقائق، في ملهاة جهنمية محكومة لقانون مفاده أن الطرف القوي عند نقطة زمنية معينة سيبتلع حقوق الطرف الضعيف بالكامل.
لذلك فإن أي صفقة أو أي مشروع يدرج إسرائيل كواحدة من أطرافه المعنية، لابد وأنه سيتعدى المنظور التقليدي في مقاربة الصراع العربي معها والذي عادة ما يحصر نطاقها في مترتبات ذلك على الصعيد الفلسطيني. من هنا فإن الجديد في العملية السياسية الرئيسية الدائرة حاليا فيما يتصل بالعرب وإسرائيل، هي مد جسور التواصل العلني الرسمي بين تل أبيب ودول الخليج والتطبيع الكامل بينهما، على اعتبار أن الطرفين هما الفرقة الناجية من مهرجان الخراب القائم في المنطقة، وأن المشتركات بينهما سواء في المصالح أو الأعداء المفترضين, كفيلة بتغليب مشروع الربط هذا على إرث عداوات الماضي وعلى أن ترهن دول الخليج مصائرها بقضايا عرب آخرين لا ينتظرهم إلا السواد. سيما وأن مقدمات هذه الوجهة المتمثلة في التعاون العسكري والتجاري الذي لم يعد سرا، وحتى التنسيق السياسي العلني أحيانا، يشكل بحسب الوعظ الإسرائيلي أساسا صالحا لتوسعة وتعميق هذه العملية.
غير أن التعثر الذي ما فتئ يرافق هذه الإستراتيجية في كل مساراتها بدأ بفشل محاولات الالتفاف على الحقوق الفلسطينية، والغرق الحرفي في المستنقع اليمني، وخروج للعراق ولبنان وسوريا ولو جزئيا من مظلة الهيمنة الأمريكية، وليس انتهاء بتعاظم النفوذ الإيراني، لا يزال يكبل الاندفاعة الإسرائيلية التي هي المحرك الحقيقي لهذه العملية، هذا في المضمون، أم شكلا فإن عبئا إضافيا يتم تحميله على إسرائيل بواسطة شركاءها في المشروع خاصة حين يجر صانع السلام المفترض في الطرف الآخر ورائه قائمة طويلة بالانتهاكات والفظائع، التي قد لا يتجرعها عالم ما بعد ال2019، أهمها تدشين مأساة القرن في اليمن، وربما أقلها ذبح وتقطيع الخصوم في قنصليات بلاده حول العالم!