صبحي حديدي- القدس العربي-
النار بين الكويت والسعودية، ورغم المظاهر الكثيرة المخالفة والمخادعة، ليست البتة خامدة تحت الرماد؛ ولا تكاد فرصة تنقضي إلا وتعقبها أخرى كاشفة عن ذلك الاشتعال، سواء اتخذ صفة سياسية معلنة، أو إعلامية عابرة، أو إقليمية تتجاوز البلدين إلى الجوار والمحيط. والشرارات الكفيلة بإطلاق اللهيب قد تبدأ من كاريكاتور سعودي مسيء لأمير الكويت حول الحياد في النزاعات الخليجية ــ الخليجية، ولعلها لا تنتهي عند مواقف السعودية الأخيرة بصدد فلسطين عموماً و«صفقة القرن» خصوصاً.
بيد أنّ الواقعة الكلاسيكية في ملفّ الشرارات هذه، والتي قد تبدو أشدّ بذاءة من سواها، تُنسب إلى الأمير بندر بن سلطان شخصياً، حين كان سفيراً للسعودية في واشنطن، والذي (على ذمّة الصحافي الأمريكي الشهير بوب ودورد في كتابه «الآمرون»، 1991)، كان يحمل للكويت «احتقاراً عميقاً»، وكلما توجّه إلى المغاسل كان يخبر صحبه أنه «ذاهب إلى الكويت»! الواقعة الأحدث، والتي يصحّ أن تكسب قصب السبق في التفاهة، هي حكاية المذيعة السعودية التي زجّت بالكويت في أمر يخصّ دولة قطر، فأثارت سخط الشارع الشعبي الكويتي، قبل وزارة الإعلام الكويتية في الواقع، فانبرى للدفاع عنها عدد من قادة أوركسترا الطبول في الإعلام السعودي.
وليس المرء بحاجة إلى كبير عناء كي يتوقف عند «المنطقة المشتركة»، بوصفها الكلمة/ المفتاح خلف نزاع مقنّع يضرب بجذوره في تاريخ قديم يعود إلى سنة 1922، حين انعقد مؤتمر العقير، على شواطىء الحسا جنوب البحرين، وترأسه السير بيرسي كوكس، المقيم الذي سيصبح المفوّض البريطاني في الخليج؛ وكان جدول أعماله الوحيد هو ترسيم الحدود بين السعودية والكويت والعراق. وتروي وثائق التاج البريطاني أنّ حضور المؤتمر كانوا عبد العزيز بن سعود، ممثلاً لنجد؛ وصبيح نشأت، وزير الأشغال والمواصلات العراقي، ممثلاً عن الملك فيصل؛ والرائد ج. ك. مور، ممثلاً للكويت. في خلفية المؤتمر، وسبب انعقاده في الواقع، كان رفض ابن سعود للحدود كما نصّت عليها الاتفاقية الأنغلو ــ عثمانية لعام 1913؛ الأمر الذي جعله يحرّض ميليشيات «الإخوان» لمواصلة شنّ الغارات على الكويت، خاصة بعد نجاحهم في هزيمة قوّات ابن رشيد وسيطرتهم على جبل سحر الذي كان العائق الوحيد أمام تقدّمهم إلى حدود العراق.
وكان الضابط البريطاني هارولد دكسون (1881 ــ 1959)، أحد أصدق الشهود على تلك الحقبة، خاصة وأنه ولد في بيروت لأب كان قنصل بريطانيا في لبنان، وتربى في دمشق، ورضع حليب سيدة بدوية من قبائل عنزة؛ كما تولى، بعدئذ، مسؤوليات عديدة في الهند والبحرين وإيران والخليج العربي، وأنجز مؤلفات حول العرب والبداوة والنفط.
وفي كتابه «الكويت وجاراتها»، 1956، يروي دكسون أنّ الجدل بين المندوبين العربيين (إذْ كان من الطبيعي أن مندوب الكويت، البريطاني، التزم الصمت في حضرة رئيسه) امتد طوال خمسة أيام دون نتيجة، فتدخل كوكس أخيراً وعقد خلوة مع ابن سعود، يصفها دكسون هكذا (ص 274): «قال السير كوكس إنه ضاق ذرعاً بما أسماه الموقف الطفولي لابن سعود، في فكرته عن الحدود على أساس القبيلة. لم تكن عربية السير بيرسي جيدة، فتوليتُ الترجمة. ولقد كان مدهشاً رؤية سلطان نجد وهو يتعرض لتوبيخ المندوب السامي وكأنه تلميذ مدرسة مشاغب، وأن يتمّ إبلاغه بأنّ السير كوكس سوف يقرر بنفسه نمط الحدود وخطها العام. انتهى المأزق هنا، وأوشك ابن سعود على الانهيار، وتهدج صوته وهو يقول إنّ السير بيرسي هو أبوه وأمّه، وهو الذي ربّاه وصنعه من العدم، وأوصله إلى المركز الذي يحتله، وأنه سيتخلى عن نصف مملكته، لا بل مملكته كلها، إذا أمر السير بيرسي».
من جانبه روى أمين الريحاني، الذي حضر مرافقاً لابن سعود، بعض تفاصيل المؤتمر في كتابه «ملوك العرب»، فأوجز تكتيك التفاوض العربي هكذا: «لنفرض أن شيخين من مشايخ العرب اختلفا على الحدود بينهما. الخلاف بسيط يمكن حسمه بوساطة شخص ثالث من البلاد، فإنّ الإنكليز يتدخلون في الأمر فيعقده مأمورهم أو وكيلهم السياسي فيصبح السلم بين المتخاصمين مستحيلاً. أما الحقّ في ذلك فليس على المأمور الإنكليزي وحده، كلا، العرب أنفسهم يشاركون في الذنب. كلا الشيخين المتخاصمين يقول في نفسه لا بدّ أن يتحزّب المأمور الإنكليزي إما لي أو عليّ، وهذا أكيد. هي عادة الإنكليز في تدخلاتهم كلها، فيضاعف العربي مطالبه عشرة أضعاف ولسان حاله يقول: إذا كان الإنكليز معي فيعطوني حقّي وزيادة، وإذا كانوا عليّ فيعطوني في الأقلّ بعض ما أطلبه ولا بدّ أن يكون فيه شيء من حقّي».
وفي الحصيلة، يتابع دكسون، أخرج كوكس خارطة شبه الجزيرة العربية، ورسم بقلم أحمر خطاً يمتدّ من الخليج إلى جبل عنيزان قرب حدود الأردن؛ فحدّد، بذلك، وللمرّة الأولى في تاريخ المنطقة، خطّ حدود يفصل منطقة نجد عن كلّ من العراق والكويت. كذلك أعطى ثلثي أرض الكويت لنجد، معللاً قراره بأنّ سلطة أحمد الجابر بن الصباح في الصحراء كانت أدنى بكثير ممّا خُيّل لصانعي الاتفاقية الأنغلو ــ عثمانية؛ وإلى جنوب الكويت وغربها رسم كوكس منطقتين، الأولى بين السعودية والعراق والثانية بين السعودية والكويت، أعتبرهما محايدتين بحيث يكون للطرفين حقّ في استثمار ما تختزنه المنطقتان من نفط.
وإذا صحّ الافتراض، في العودة إلى عصرنا الراهن، أنّ السعودية ليست البتة سعيدة بمواقف الكويت المحايدة إزاء فرض الحصار على قطر، وغير متعاونة في جهود الوساطة التي بذلها أمير الكويت منذ ابتداء الأزمة؛ فإنّ الصحيح في المقابل، والأبعد في التاريخ والجغرافيا واقتصاد النفط تحديداً، أنّ المنطقة المشتركة هي أرض النار المتقدة بين الكويت والرياض، تحت رماد خادع يعلن علاقات أخوية وخليجية لا تشوبها شائبة. ذلك لأنّ الإنتاج في هذه المنطقة المشتركة يمكن أن يبلغ 500 إلى 600 ألف برميل يومياً، لكنه متوقف منذ العام 2015 بسبب إقدام السعودية على تجديد ترخيص استثمار لشركة شيفرون في حقل الوفرة دون التشاور مع الشريك الكويتي، وعلى مساحات كانت الكويت تستعدّ لاستغلالها في إقامة مصفاة تكرير.
وزاد في الطين بلّة أنّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قام بزيارة الكويت، في أيلول (سبتمبر) الماضي، لا بهدف رأب الصدع في العلاقات أو تصحيح أخطاء الشراكة السعودية ــ الكويتية في المنطقة المشتركة؛ بل سعياً إلى الضغط على الحكومة الكويتية كي ترفع معدلات إنتاج النفط استجابة لرغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أعقاب تشديد الحصار على النفط الإيراني. وبدل أن يقضي بن سلمان بضعة أيام في ضيافة البلد الشقيق، فيضيف صفحة جديدة إلى سجلّ تجميله وترقية شخصيته؛ اقتصرت زيارته على ساعات قليلة، كشفت بجلاء أنّ الخلافات بين البلدين لا تتوقف عند خضوع الكويت لرغائب الرياض بالوكالة عن ترامب.
إنها، أيضاً، تشمل فسخ العقد مع شركة شيفرون، واللجوء إلى التحكيم الدولي بصدد المنطقة المشتركة، والاعتذار عن المشاركة العسكرية في حرب السعودية على اليمن، ورفض الانضمام إلى الحلف الرباعي الذي يفرض الحصار على قطر… في عبارة أخرى، كانت تلك مناسبة جديدة لإعادة فتح الملفات المتعددة، العالقة منذ 97 سنة، أو اللاحقة في كلّ سنة؛ والتي لا تُغلق واحدة منها إلا لكي تُطلق أخرى؛ سواء جرت على لسان أمير أريب أو مذيعة بلهاء!