csmonitor-
مثل احتضان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لقطر، مؤخرا، تحولا كبيرا في سياسة إدارته التي اتهمت في السابق الدوحة بـ"تمويل الإرهاب".
لكن الأهم من ذلك –على ما يبدو- أن موقف "ترامب" أظهر "محدودية" تأثير السعودية والإمارات، خصوم قطر، على البيت الأبيض. وهذا يمكن أن يحدث تحولا في ميزان القوى بالعالم العربي، ويفتح الباب أمام عودة التعددية في منطقة الخليج.
في عام 2017، عندما بدأت السعودية والإمارات حصارا على قطر، وأجبرتا 10 من حلفائهما على قطع العلاقات مع الدوحة أو خفضها، اتخذ الرئيس "ترامب" خطوة نادرة بالتدخل ودعم الحصار المفروض على قطر، التي ظلت لسنوات طويلة حليفا وثيقا للولايات المتحدة أيضا.
ففي مؤتمر صحفي عقده في يونيو/حزيران 2017، قال "ترامب": "قطر، للأسف، لديها تاريخ من تمويل الإرهاب على مستوى عال جدا"، مرددا المزاعم السعودية في هذا الخصوص.
لكن بعد ذلك بعامين، استقبل "ترامب" أمير قطر الشيخ "تميم بن حمد" في البيت الأبيض، مشيرا إليه باعتباره "صديقا قديما"، وموقعا مع الدوحة عقود أسلحة بمليارات الدولارات.
"من يدفع أكثر"
يقول مراقبون ومسؤولون في المنطقة إن موقف "ترامب" من قطر أثبت خطأ الاتكاء على البيت الأبيض الذي يعتمد سياسة "من يدفع أكثر".
فما حدث مع الأمير "تميم" مماثل تماما لما حدث مع ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان" عندما زار واشنطن في مارس/آذر 2018 مع السعودية حيث وقع صفقات أسلحة بمليارات الدولارات. أيضا وقعت قطر، خلال زيارة أميرها للولايات المتحدة، صفقات بعشرات المليارات من الدولارات مع شركات أمريكية بينها "Raytheon" و"Boeing" و"Chevron"، وتعهدت بزيادة استثماراتها في الشركات الأمريكية بمقدار 15 مليار دولار خلال العامين المقبلين.
ولم يوافق أمير قطر فقط على توسيع قاعدة "العديد" الجوية الأمريكية قرب الدوحة، وهو طلب قديم من واشنطن وأولوية لها في إطار مساعيها لاحتواء إيران، لكنه وعد أيضا بتمويل تكلفة توسيع القاعدة.
لقد أظهرت زيارة الأمير "تميم" إلى واشنطن أن السياسة القطرية استطاعت هزيمة السعودية والإمارات في مباراتهما الخاصة بأمريكا.
يقول المحاضر في الدراسات الأمنية بجامعة "كينجز كوليدج" بلندن "أندرياس كريج": "لقد فهم القطريون -كما السعوديين والإماراتيين- أن ترامب يتعامل بمنطق التاجر؛ فأنت بحاجة إلى ضخ الأموال في بلاده كي تكسبه إلى جانبك".
درس قاس للسعودية والإمارات
ويقول مراقبون إن الرياض وأبوظبي تعلمتا درسا قاسيا آخر حينما استثمرا أموالهما بشكل مكثف في إدارة "ترامب" فقط لتحقيق أهدافهما الإقليمية وهو: في الولايات المتحدة، المؤسسات لها كلمتها.
ومن خلال التعويل على "ترامب" فقط، فشلت الدولتان الخليجيتان، حسب المراقبين، في حساب مقدار تأثير البنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس والمستشارين على القرارات السياسية وصياغتها وحتى التراجع عنها.
ففي حالة قطر، نجح وزير الدفاع الأمريكي السابق "جيمس ماتيس" في إثناء "ترامب" عن دعم قرارات خطيرة كادت السعودية والإمارات أن تتخذها تجاه السلطة الحاكمة في قطر.
وفقا لمصادر دبلوماسية أمريكية، أدت عملية مماثلة إلى تغيير موقف "ترامب" ضد المصالح السعودية والإماراتية في السودان وحتى ليبيا.
كما يعكس موقف البيت الأبيض من قطر حالة من الإحباط داخل الإدارة الأمريكية من سياسات السعودية والإمارات.
إذ إن الحصار المفروض على قطر لم يؤد إلا إلى كسر وحدة الصف الخليجي والعالم العربي الأوسع؛ ما قوض جهود واشنطن لمواجهة طهران.
يقول زميل "معهد بيكر للسياسة العامة" بـ"جامعة رايس" في هيوستن الأمريكية "كريستيان أولريخسن": "لقد فقدت إدارة ترامب صبرها من حصار قطر الذي أضر بمصالح الولايات المتحدة في احتواء إيران".
كما يأتي موقف البيت الأبيض من قطر نتيجة لسلسة من الحوادث المأساوية الناجمة عن التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات باليمن، ودعم البلدان الطغمة العسكرية التي ذبحت المحتجين في السودان، وعجزهما عن إقناع الفلسطينيين بالمشاركة في مؤتمر السلام الأخير في البحرين، فضلا عن تداعيات مقتل الصحفي "جمال خاشقجي" داخل قنصلية المملكة بإسطنبول.
رد السعودية والإمارات
يبقى السؤال الأهم هو كيف ستتعامل السعودية والإمارات مع العلاقة مع الولايات المتحدة؟
يقول مقربون من الرياض إن المملكة تشعر بـ"الخيانة" من إدارة "ترامب" رغم ضخ الكثير من الأموال للتأثير على قرارتها. وهناك شعور متزايد في الرياض بأن الإدارة الأمريكية المقبلة بعد "ترامب" -سواء في عام 2020 أو 2024- والكونغرس القادم سيكونان أكثر شراسة وعدوانية تجاه المملكة؛ ما سيؤدي إلى نضوب الأسلحة.
ونتيجة لذلك، تعمل المملكة بنشاط على تنويع علاقاتها العسكرية، والعمل عن كثب مع روسيا، وحتى دراسة شراء منظومة الدفاع الجوي "S-400" من موسكو، وهي المنظومة ذاتها التي سببت خلافا دبلوماسيا بين الولايات المتحدة وتركيا عندما اشترها الأخيرة، وأدت إلى اتخاذ واشنطن قرارا بتعليق مبيعات مقاتلات "F-35" إلى أنقرة حليفتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
زادت الرياض أيضا من اعتمادها الاقتصادي على الصين؛ حيث رفعت صادراتها من النفط إلى المنافس الجيوسياسي الأمريكي بنسبة تقارب 50% خلال العام الماضي؛ ما جعل بكين المستورد الأول للخام السعودي.
كذلك، أصدرت الرياض إشارات عديدة على أنها على مستعدة للتوجه إلى روسيا لشراء التكنولوجيا النووية، حال فشل "ترامب" في التوصل إلى اتفاق مثير للجدل بين الولايات المتحدة والسعودية للتعاون النووي. وافتتحت روساتوم المملوكة للدولة الروسية فرعا لها في المملكة الشهر الماضي مع تقدم المحادثات بشأن المفاعلات.
يقول "أولريخسن": "السعوديون يبعثون برسالة إلى الأمريكان مفادها (لدينا خيارات أخرى وعلاقتنا بكم ليست أمرا مسلما به".
وأضاف: "الآن، هل سيحرك هذا الكونغرس الذي كان في الماضي يحمل شكوكا تجاه السعودية؟ سنرى ما سيحدث".
وبينما تتطلع المملكة إلى ما وراء الولايات المتحدة، فإن الإمارات تتطلع إلى أبعد من "ترامب" نفسه؛ حيث بدأت حملة علاقات عامة شاملة لإعادة بناء علاقات مع الحزبين الجمهوري والديموقراطي داخل الكونغرس.
ومفتاح هذه الحملة هو انسحاب أبوظبي من اليمن، الشهر الماضي، وهي الخطوة التي طال انتظارها. وفي الواقع هي مجرد إعادة انتشار تكتيكية؛ بحيث تُبعد القوات الإماراتية من الخطوط الأمامية، وتنأى بالإمارات عن النزاع المأساوي وظيفيا وفي وسائل الإعلام.
يقول دبلوماسيون غربيون وعرب إنه في أعقاب عودة الولايات المتحدة إلى قطر، أصبحت تعددية الأطراف في الخليج مرة أخرى حقيقة واقعة.
وبسبب الشعور بالعزلة المتزايدة، تعمل الرياض وأبوظبي ، بناءً على طلب واشنطن، مرة أخرى مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى خارج حليفتها البحرين والكويت على قضايا الأمن والطاقة.
الضربة الأكبر
وربما كانت الضربة الأكبر للرياض وأبوظبي في العالم العربي؛ حيث تم النظر إليهما كقوتين كبريتين منذ الربيع العربي، وهي نظرة جاءت مدعومة بأموالهما وقوتهما العسكرية.
إذ أعاد المغرب والأردن علاقاتهما مع قطر علنا دون خوف من الانتقام السعودي.
والدول العربية، التي طالما انجرفت في السياسة السعودية الإماراتية "معنا أو ضدنا"، أصبحت الآن أكثر حرية في اتباع سياسات مستقلة خدمة لمصالحها الوطنية.
يقول مسؤول عربي طلب عدم الكشف عن هويته: "بعد سنوات من الإملاء، يمكننا الآن تسيير سياساتنا وفق ما نعتقد أنه صحيح، والحفاظ على تحالفاتنا كما نراها مناسبة".