علاء بيومي- العربي الجديد-
ليست الأزمة الخليجية وهماً صنعته أقلام الكتاب والصحفيين، بل هي واقع تعيشه المنطقة منذ يونيو/ حزيران 2017، وتعود جذوره إلى ما قبل ذلك بسنوات، وربما عقدين وأكثر. ليست هذه الأزمة خلافا عابرا في وجهات نظر، بل حصار سياسي واقتصادي كبير فرضته أربع دول عربية أساسية، وأخرى تحالفت معها، ضد دولة قطر، بدعم أولي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وضغوط كادت تصل إلى حد الغزو العسكري، وفقا لتقارير أميركية ودولية مختلفة. وقد سبقت الأزمة الماثلة أخرى مشابهة، ولكنها أقصر وأكثر محدودية، في العام 2014، وسبقتها توترات متقطعة في علاقة قطر وبعض دول الحصار على مدى عقدين على الأقل، أو منذ عام 1995، وربما قبل ذلك. وهذا لا يعني أن الأزمة ترتبط بالتغير في طبيعة النظام في دولة قطر، ولكنها أزمة هيكلية بامتياز.
يسير العالم العربي، كبقية العالم، تدريجيا نحو عالم متعدّد الأقطاب، ساعد على ذلك انتشار أسباب الثروة والقوة (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية) بين دول العالم والمنطقة. فكما شهد غزو العراق قمة الهيمنة الأميركية والقطبية الأحادية، كتب الفشل الأميركي هناك لحظةً فارقةً في تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة وحول العالم، وصعود عالم بديل متعدّد الأقطاب دوليا وإقليميا. وقطر إحدى الدول العربية التي أدركت ذلك، وقد سعت إلى تعزيز عناصر القوة منذ منتصف التسعينيات، كما فعلت دول خليجية أخرى، كالإمارات التي زادت تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة بشكل ملحوظ منذ حرب تحرير الكويت، حيث شاركت منذ ذلك الحين في مختلف الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في العالم.
وسعت قطر إلى بناء قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية، مستفيدة من التقدّم التكنولوجي واكتشافات الغاز والتغير في بنية النظام الدولي، واستمرت في حالة تمايزٍ لا تتقاطع تماما مع سياسات معسكر الموالاة، ولا معسكر المعارضة، اللذين هيمنا على العالم العربي والمنطقة قبل ثورات الربيع العربي. ومع انطلاق تلك الثورات، والتغيرات الهائلة التي أدخلتها على بنية المنطقة، كانهيار أنظمة وصعود جماعات سياسية وأفول أخرى وصعود قوة الجماهير، ومع الانسحاب الأميركي المضطرد من المنطقة منذ عام 2005، تحول الإقليم تدريجيا من نظام القطبية الثنائية إلى نظام ثلاثي الأقطاب، فبدلا من انقسام دول المنطقة بين دول موالية للولايات المتحدة وأخرى معارضة لها، انقسمت المنطقة إلى ثلاثة أقطاب أو محاور أساسية.
القطب الأول تقوده السعودية والإمارات، ويضم مصر ما بعد الانقلاب العسكري (2013)، وهو محور موال للولايات المتحدة، خصوصا للقوى اليمينية في واشنطن والغرب، ومتسق مع إسرائيل، ومعارض للانتفاضات الجماهيرية والتغيير. القطب الثاني هو ما يسمى أحيانا بالهلال الشيعي، والذي التف حول إيران، وضم دولا كالعراق وسورية وجماعات كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. القطب الثالث ضم دولتي تركيا وقطر، وهو محور حليف للولايات المتحدة، ولا يعادي إيران، وداعم للربيع العربي ومنفتح على قوى التغيير في المنطقة.
وعلى الرغم من معاداة ترامب الأولية القطب التركي - القطري ومواقفه، كما ظهر في مساندة ترامب الحصار على قطر، وفي العقوبات الاقتصادية التي فرضها على تركيا في أواخر عام 2018، إلا أن الرئيس الأميركي تراجع عن مواقفه تدريجيا، بعد أن أدرك عمق علاقة بلاده مع البلدين، وهو ما ظهر في التطور الإيجابي المضطرد الذي شهدته العلاقات الأميركية القطرية منذ الأزمة الخليجية، وفي الضوء الأخضر الذي منحه الرئيس الأميركي لتركيا أخيرا للتدخل في شمال سورية، بعد عزمه سحب الجزء الأكبر من قواته المتبقية هناك في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. حيث بدت واضحة رغبة ترامب في تقليل التزاماته تجاه المنطقة ودولها، ورغبته في التراجع خطواتٍ للخلف، وترك موازين القوى الإقليمية تفرض نفسها على أرض الواقع.
وقد برز التفكير الأميركي السابق في مواقف مختلفة، وفي مقدمها رد الفعل الأميركي تجاه الهجوم على منشآت نفط سعودية في خريص وبقيق في سبتمبر/ أيلول الماضي، والذي أدّى إلى توقف نصف إنتاج السعودية من النفط فترة، فعلى الرغم من اتهام السعودية والإدارة الأميركية الصريح إيران بمسؤوليتها عن الهجمات، إلا أن تلك الاتهامات لم ينتج عنها رد عسكري مباشر، بل بدا واضحا بعدها حرص أميركا على عدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، وحرصها على تحميل دول المنطقة الجزء الأكبر من مسؤولية الدفاع عن أمنها من خلال تحمّل نفقات إرسال مزيد من القوات الأميركية للمنطقة، وعقد مزيد من صفقات الأسلحة مع واشنطن.
أدى التراجع الأميركي التدريجي منذ عام 2005 (تقريبا) إلى صعود وانتشار نظام ثلاثي القطبية في المنطقة، وزيادة التنافس بين الأقطاب الثلاثة في أكثر من دولة وإقليم فرعي، كما ظهر في التنافس على بناء القواعد العسكرية والتجارية في القرن الأفريقي، ويظهر حاليا في الصراع الدائر في ليبيا، حيث يبدو الإصرار التركي على التدخل لمعادلة النفوذ الإماراتي والمصري الداعم خليفة حفتر في شرق ليبيا، والتحالف المصري الإسرائيلي اليوناني على استغلال نفط البحر المتوسط وغازه، وهو صراع يبدو في تزايد، مع وضوح رغبة الرئيس الأميركي، ترامب، في التراجع إلى الخلف، وترك موازين القوى الإقليمية تأخذ مداها.
هذا يعني أن الأزمة الخليجية وليدة مرحلة ممتدّة، وتغيرات ما زالت تتفاقم وتتشكل في بنية النظامين، الدولي والإقليمي، فالدول العربية ودول المنطقة لم تعرف يوما نظم الأمن الجماعية القائمة على المعاهدات والاتفاقات الإقليمية المشتركة، لأن غالبية تلك النظم غير مؤسساتية، استبدادية تخشى شعوبها، وبعضها تقوم علاقاتها على المصالح المشتركة، والسعي إلى الهيمنة على الآخر وبسط النفوذ اعتمادا على موازين القوى. وبالطبع، لم تكن تلك المعادلة لتسمح بتعدّد الأقطاب، وزاد من صعوبة الأمر في الخليج تحديدا صعود قيادات شابّة تمتلك رؤى توسعية تدخلية عنيفة، كما رأينا في حرب اليمن وأزمة الخليج، والتضييق الشديد على الحريات واغتيال الصحفيين.
ويبدو أن بعض الأطراف، خصوصا السعودية، باتت تدرك أنها في حاجة لترشيد سياساتها الخارجية وتبعاتها في ظل تعدّد (وتعاظم) التحديات التي تواجهها، وهو ما انعكس على سياستها في اليمن وتجاه الأزمة الخليجية، ولم ينسحب الموقف نفسه تجاه الأزمة الخليجية على مواقع دول، كالإمارات والبحرين ومصر، نظرا لاختلاف مصالح هذه الدول والتزاماتها. وهذا يعني أن وضع حل حقيقي للأزمة الخليجية ليس أمرا سهلا، لأنه يتطلب في "جوهره" التوصل إلى نظم أمن جماعية، وهي مهمةٌ مستحيلةٌ في ظل طبيعة النظم القائمة وسياساتها الخارجية. ويتطلب "مرحليا" القبول بتعدّد الأقطاب الإقليمية واختلاف سياستها، وهي مهمةٌ صعبة للغاية أيضا، لأنها تتطلب الوصول إلى توازن قوى بين الأقطاب المختلفة. وتوازن القوى غاية صعبة المنال حاليا، لأسباب عديدة، كاحتدام التنافس بين الأقطاب في دول مثل ليبيا، واختلاف مصالح الدول المشكّلة لكل قطب، ولأن لحظة التعدّدية القطبية نفسها ما زالت في بدايتها ولم تصل إلى مداها بعد. ويتبقى "مستوى ثالث" للحل أكثر محدوديةً يقوم على إصلاح العلاقات الثنائية بين بعض دول تلك الأقطاب، كما يظهر في التطور الإيجابي الذي شهدته أخيرا العلاقات السعودية القطرية، ولكنه يظل تطورا ثنائيا قائما على نظرة واقعية للسياسة والمصالح المشتركة والتفاهمات الثنائية.