رضي الموسوي- البيت الخليجي-
بعد انتهاء دورة كأس الخليج لكرة القدم التي انتظمت في العاصمة القطرية الدوحة، وبعد صدور البيان الختامي للقمة الخليجية التي عقدت في الرياض يوم العاشر من ديسمبر الماضي، تواصلت المعركة الإعلامية التي تقودها وسائل الإعلام الخليجية التابعة للدول الثلاث: السعودية، والإمارات والبحرين، من جهة، والإعلام القطري من جهة أخرى.
“المعارك” على وسائل التواصل الاجتماعي استمرت في اعادة انتاج خطاب الكراهية والازدراء والتحريض بشكل مقزز، وبما لا ينتمي لواقع الحال الشعبي الخليجي، ما يعني أن الأزمة الخليجية الداخلية لاتزال تراوح مكانها، وأن الوساطة الكويتية التي أعلن الجميع احترامها متعثرة.
البيان الختامي لقمة الرياض، أشار في الفقرة الثالثة منه إلى تأكيد المجلس الأعلى لمجلس التعاون “حرصه على قوة وتماسك ومنعة مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة أساسها العقيدة الإسلامية والثقافة العربية، والمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبتها في تحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين من خلال المسيرة الخيرة لمجلس التعاون، بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، مؤكداً على وقوف دوله صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس”، ووفق البيان الختامي الذي ذكّر في موقع آخر “بما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قرار المجلس الأعلى في دورته (36) حول مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد”، فهل من ترجمة حقيقية على الأرض لكل هذا الاسهاب في التفاؤل؟
يأتي التذكير في سياق التمني والرغبة في تحقيق تقدم يطالب به المواطن الخليجي منذ عدة عقود، لكنه تقدم لا يأتي بسبب طبيعة المجلس والأزمات التي عصفت به في السنوات الماضية وآخرها الازمة الحالية التي تهدد بشله، حيث قسمته إلى اكثر من فسطاطين على الأقل. هذه الأزمة زادت من حالة التعثر وعطلت انجاز المهام الرئيسة المعلنة منذ عقد التأسيس، الأمر الذي فرض تحولاً جديدًا في النظرة لحالة المنظومة الخليجية، من تكتل إقليمي ناجح، قياسًا بالتكتلات العربية الأخرى التي فشلت وانهارت (مجلس التعاون العربي والمجلس المغاربي)، إلى تكتل يواجه عثرات تتراكم مع زيادة التحديات وعدم القدرة على الولوج إلى مراحل متقدمة من التعاون وتحقيق النقلة النوعية المطلوبة في الجوانب الاقتصادية والمالية والتجارية، فضلا عن الجوانب السياسية والاجتماعية.
وربما يكون الخلاف الخليجي العميق واستمراره لأكثر من سنتين، ناجمًا عن طريقة التعاطي مع الخلافات داخل أروقة المجلس وأمانته العامة التي كأنها دخلت في سبات عميق، ولا يعرف الخليجيون ماذا تفعل.
كان الارتخاء ولايزال سيد الموقف في انجاز المهام الكبرى الدافعة للوحدة الخليجية مثل توحيد العملة التي تأجلت أكثر من مرة وهي التي كانت هدفًا منذ اطلاق الاتفاقية الاقتصادية في العام 1981. لنتخيل أن المصرف المركزي الخليجي قد تأسس، وأن الدينار أو الريال أو الدرهم الخليجي، قد تم صكه وتداوله بين الناس في دول الخليج العربي.. فأي معنويات سترتفع وتسود في أجواء دول المجلس باتجاه تحقيق العناصر الموحدة، ولجم الخلافات الفرعية لصالح القضايا والمصالح الكبرى؟
لاشك أن الاتحاد الجمركي سيكون تحصيل حاصل إذا حسنت النوايا، وأن جرعة التنسيق في العلاقات الخارجية بما فيها الاستيراد الموحد للسلع والبضائع سوف تتضاعف وستسهم في تعبيد الطريق نحو اتحاد سياسي، وستكون الخلافات البينية تحت السيطرة. كل ذلك يمكن أن يتم بشرط أن يكون للمواطن دور حقيقي في تحديد مصيره ووضع خارطة طريق لمستقبله، بما يعزز امكانية قيام الاتحاد الخليجي الذي دعا له المغفور له الملك عبدالله. فالاتحاد الجمركي وتوحيد العملة ليسا ترفا يتباهى بهما في برامج الترويج التي تمارسها ادارات العلاقات العامة التي تستنزف الكثير من الأموال بلا طائل يذكر، بل ضرورة وحاجة ماسة للمنظومة الخليجية التي سبق لها وأن جربت الشروع في مفاوضات تجارية واقتصادية ومالية مع التكتلات الكبرى مثل الاتحاد الاوروبي في موضوعات عدة، منها ضريبة الكربون على المنتجات البتروكيماوية الخليجية، وكانت تواجه دوما برفض التفاوض مع ست دول وبطلب وحدة الموقف الخليجي قبل التفاوض.
تكمن الضرورة في هذه الوحدة لأنها تقوي الموقف التفاوضي لتكتل ناتجه الاجمالي يبلغ 1.5 تريليون دولار، ويستحوذ على قرابة 40 بالمئة من الاحتياطي النفطي العالمي، وهو سوق لكثير من السلع والبضائع والصفقات الفلكية التي لاينازعه أي تكتل آخر فيها، ما يجعله في موقف أكثر قوة وقدرة على فرض الكثير من الشروط التي يمكنها أن تقدم خدمة عامة للمنظومة الخليجية.
وفي عالم لا يحترم إلا الاقوياء، على المنظومة الخليجية معالجة مكامن الخلل والضعف التي تعاني منها، وهي واضحة وجلية، وتتمثل في ضرورة العودة للداخل الخليجي وتمتين ثقة المواطنين الخليجيين بحكوماتهم عبر اشراكهم في صناعة القرار الاقتصادي والسياسي، واعتماد نمط اقتصادي جديد يقوم على التكنولوجيا المتقدمة والمعرفة بدلًا من العمالة الرخيصة التي تغرق أسواق العمل في مجلس التعاون وتستنزف طاقاته النقدية بالتحويلات للخارج التي تزيد على 100 مليار دولار سنويًا، في وقت تشكل النسبة الكبيرة للعمالة الوافدة، خصوصا من جنوب وشرق آسيا، خطرًا ديمغرافيًا كبيرًا على بلدان المنطقة، فضلًا عن جلب مشاكل اجتماعية اضافية مع الاستمرار في هذه السياسة، حيث يصل عدد العمالة الوافدة في دول التعاون الست إلى نحو 13.8 مليون شخص، بنسبة تقترب من ال70 بالمئة من أجمالي سوق العمل في دول المجلس والتي تبلغ 20 مليون شخصًا.
لايمكن للأرض الرخوة التي تقف عليها دول التعاون بسبب هذا الخلل الديمغرافي الكبير والخطير إلا أن تفرز واقعًا يواجه صعوبات كبيرة في تحقيق الأمن الاجتماعي وصعوبات أخرى في تمتين الوحدة الداخلية، حيث يعاني النسيج المجتمعي من تفتت بسبب فسيفساء العمالة الوافدة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن عملية اختراق المجتمعات الهشة تكون أسهل بكثير من اختراق المجتمعات التي تتمتع بتماسك مجتمعي قادر على صد أي محاولات خارجية، وهذا يفرض على دول مجلس التعاون الخليجي سرعة معالجة هذا الخلل الذي تجاوز الخطوط الحمراء.
الازمة الداخلية التي تستنزف طاقات أربع من الدول الاعضاء بالمجلس وتعطل برامجه وأهدافه بما فيها الاتحاد والوحدة، فقد طالت كثيرًا وحان الوقت لتدوير زواياها وإعادة النظر في المعطيات التي فجرتها، بما يخلق اجواءًا ايجابية تُبنى على ما تحقق في دورة كأس الخليج عندما أعلنت الدول الثلاث: السعودية والامارات والبحرين، عن مشاركتها في منافسات الدورة، وكذلك على أجواء قمة الرياض الخليجية التي اتسم التعاطي فيها بالحذر، ظاهريًا على الأقل، والعمل على إبعاد عناصر التأزيم الخارجية ومنعها أو الحد من تدخلاتها في الخلاف الخليجي الداخلي، وذلك من أجل تحقيق اختراق قادر على انهاء الخلل الكبير الذي يعاني منه مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وهذا تحد آخر في العام 2020 الى جانب تحديات التنمية المستدامة التي هي حاجة ماسة لبلدان المنطقة، خصوصا بعد أن تآكلت الطبقة الوسطى وازاحت فئات واسعة منها الى الفئات المحدودة الدخل مع تكشير النيو ليبرالية عن انيابها برفع الدعومات وفرض الضرائب.