الخليج الجديد-
ربما كانت مفارقة لافتة، تزامن القرار الإماراتي باستئناف خدمة البريد مع قطر، مع مرور 1000 ألف يوم على الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر على الدوحة، في يونيو/حزيران 2017.
وألغى تعميم داخلي لموظفي وفروع البريد في الإمارات، بتاريخ 6 فبراير/شباط الجاري، التعميم القديم الخاص بإيقاف الخدمات البريدية الموجهة إلى قطر منذ العام 2017، بدعوى "مراعاة مصلحة العمل، والطلب على الخدمة، وتلبية احتياجات المتعاملين".
بخلاف ذلك، شهدت الأشهر الماضية علامات متزايدة على تآكل بعض مظاهر الحصار، منها مشاركة قوات قطرية في مناورات عسكرية استضافتها الأراضي السعودية، ومشاركة السعودية والإمارات والبحرين في بطولة "خليجي 24" نهاية العام الماضي.
ورغم رمزية تلك المؤشرات، فإنها تحمل دلالات على فشل حصار الرباعي العربي (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) المفروض على قطر، بدعوى "دعم الإرهاب"، وهو ما نفته الدوحة بشدة.
مكاسب سياسية وعسكرية
وفرت الأزمة الخليجية، التي توشك أن تكمل عامها الثالث على التوالي، دوافع قوية للدوحة لإعادة تشكيل منظومة تحالفاتها في المنطقة، عبر تعزيز علاقاتها مع كل من تركيا وإيران، وهو ما أعطى الدوحة خيارات اقتصادية وعسكرية لتجاوز آثار الحصار وأجهض جميع مخططات النيل منها.
وخليجيا، لم تفرط قطر، في علاقاتها الوثيقة مع الكويت وعمان، اللتين رفضتا الانضمام للحصار الرباعي، والرضوخ للضغوط السعودية الإماراتية في هذا الشأن، ما منحها ضمنيا سندا خليجيا في الأزمة، عززته بتقارب مع دول عربية أخرى لم تشارك في الحصار.
أوروبيا ودوليا، وعبر دبلوماسية نشطة، وحملة علاقات عامة، وصفقات تسليح بمليارات الدولارات، تمكن صانع القرار القطري من تحييد قوى دولية، بل ودفع واشنطن وعواصم أوروبية للعب دور الوساطة في الأزمة والضغط لكسر الحصار أو تخفيفه.
عسكريا، دفعت الأزمة، قطر، إلى تعزيز قدراتها العسكرية، والتحول إلى مستورد كبير للسلاح، عبر إبرام أكثر من 33 اتفاقية عسكرية مع الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وتركيا، تجاوزت قيمها مجتمعة 25 مليار دولار، ما مكنها من امتلاك أسطول حديث من أكثر الطائرات المتطورة في العالم، وحيازة أنظمة صاروخية وبحرية متطورة، وإنشاء كليات وأكاديميات عسكرية، وقواعد لتصنيع الذخيرة، والسلاح.
مؤشرات لافتة
تمتلك قطر التي يبلغ عدد سكانها نحو2.7 مليون نسمة، صندوقا سياديا بقيمة 320 مليار دولار، ولها استثمارات ضخمة في عدة دول أوروبية وآسيوية.
ورغم تضرر قطاعات السياحة والعقارات والبيع بالتجزئة، جراء الحصار، وتكبد الخطوط الجوية القطرية خسائر سنوية نتيجة تغيير مساراتها، فقد ضخت الحكومة القطرية استثمارات بقيمة 30 مليار ريال (8.2 مليارات دولار) لإنشاء ثلاث مناطق اقتصادية في البلاد.
وبلغة الأرقام، نجح الاقتصاد القطري في استيعاب أزمة الحصار وامتصاص تداعياته، محققا نموا في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي، بنسبة 2.2% في العام 2018 صعوداً من 1.6% في العام 2017، مع توقعات بارتفاع نسبة النمو إلى 2.6% في 2019، بحسب صندوق النقد الدولي.
وحققت البنوك القطرية رسملة عالية وبلغت نسبة كفاية رأس المال فيها 16% وهي نسبة تحاكي نسب الدول المتقدمة، وارتفعت احتياطيات قطر الدولية وسيولتها من العملة الصعبة إلى 48.4 مليار دولار بنهاية 2018.
ودفع الحصار قطر إلى البحث عن شركاء تجاريين جدد، الأمر الذي سمح للواردات بالارتفاع بنسبة 4.32%، بينما نمت الصادرات بنسبة 5.45%، وسجل الفائض التجاري في قطر نحو 53 مليار دولار سنة 2018.
وتفيد بيانات مصرف قطر المركزي أن الدوحة حققت إيرادات نفطية بقيمة 168 مليار ريال (46.39 مليار دولار) في 2019، مقابل 173.13 مليار ريال (47.80 مليار دولار) في 2018.
وفي سبتمبر/أيلول 2018 أعلنت قطر بدء إنشاء أول مصنع لإنتاج السيارات الكهربائية بالتعاون مع شركة "أي آر أم" اليابانية، بطاقة 500 ألف سيارة في 2025، على أن يرتفع إلى مليون سيارة في العام 2035.
وبعد عامين من جلب آلاف الأبقار المدرة للحليب من أجل التغلب على الحصار، بدأت شركة "بلدنا" القطرية لإنتاج الألبان في التصدير للخارج للمرة الأولى.
مشروعات عملاقة
خلال 1000 يوم من الحصار، كانت قطر على موعد مع إنجاز عدد من المشروعات العملاقة، أبرزها مترو الدوحة (3 خطوط) الذي يعد أضخم مشاريع النقل الجماعي في قطر، وأحد أسرع القطارات دون سائق في العالم.
وعملت الدوحة، على تسريع وتيرة الانتهاء من مشاريع مونديال 2022، التي كانت مهددة بتأخر إمدادات مواد البناء والإنشاءات الضرورية، جراء الحصار، بفاتورة إنفاق بلغت أكثر من 207.4 مليار دولار.
وفي فبراير/شباط 2019 ، دشنت قطر "طريق المجد" بطول 195 كلم بطاقة استيعاب لأكثر من 14 ألف مركبة، وهو أكبر مشاريع الطرق في البلاد، ويربط بين جنوب ووسط وشمال البلاد.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، افتتح أطول وأعمق نفق ثنائي الاتجاه في قطر بشكل جزئي ضمن أعمال مشروع تطوير المرحلة الثانية لطريق الريان، الذي يربط بين الكثير من المناطق السكنية.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، افتتحت قطر الخزانات الكبرى لتأمين المياه بمنطقة أم صلال، شمال العاصمة الدوحة، ما يكفل تحقيق الأمن المائي للبلاد حتى العام 2036، بتكلفة 14.5 مليار ريال (4 مليارات دولار).
وفي العام الأول الحصار، وتحديدا في سبتمبر/أيلول 2017، جرى افتتاح ميناء حمد الدولي، ليشكل بوابة قطر نحو أكثر من 150 وجهة بحرية عالمية، بطاقة استيعابية تبلغ 7.5 ملايين حاوية سنويا.
ويجري كذلك توسعة مطار حمد الدولي بهدف رفع طاقته الاستيعابية من 30 مليون مسافر سنويا إلى ما يفوق 53 مليون مسافر، قبل انطلاق مونديال قطر 2022.
دبلوماسية الغاز والرياضة
تؤكد الوقائع إذن أن استراتيجية التنويع، التي انتهجتها قطر، مستفيدة من الصندوق السيادي الضخم لهيئة الاستثمار القطرية، بدأت تؤتي أكلها في تنويع السلال الغذائية والموارد الاقتصادية للبلد الخليجي الصغير.
وعبر خطط لرفع طاقة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال إلى 126 مليون طن سنويا بحلول 2027، بزيادة 64% عن مستوى الإنتاج الحالي البالغ 77 مليون طن سنويا، كان الغاز القطري فرس الرهان لكسر الحصار، وكنزا استراتيجيا لأحد أبرز منتجي ومصدري الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم.
ولا يمكن إغفال دور دبلوماسية الرياضة في كسر الحصار، حيث استضافت قطر بطولة العالم لألعاب القوى 2019، وكأس العالم للأندية، وبطولة "خليجي 24" وكأس آسيا ودورة الألعاب العالمية الشاطئية في العام ذاته، كما فازت بحقوق استضافة كأس السوبر الإفريقي لثلاث نسخ أعوام 2020، 2021، 2022، وبطولة العالم للسباحة 2023، وغيرها من البطولات العالمية في رياضات مختلفة.
ويبدو إذن بعد 1000 يوم من الحصار، أن لسان حال المسؤولين القطرين هو "شكرا لهذه الأزمة التي علمتنا الكثير"، حيث إن قطر لم تعد اليوم كما كانت قبل 5 يونيو/حزيران 2017.