مبارك الفقيه- راصد الخليج-
يرقص العالم على صفيح ساخن، وتتوالى الملفات المشتعلة في أكثر من مكان، وتستعد الكيانات الكبرى للإنتقال إلى عصر جديد تتحضّر فيه الدول لإرساء تركيبة مختلفة من التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية، من الولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت في حمأة الانتخابات الرئاسية، إلى أوروبا المتفكّكة التي تعيد دراسة تركيب اتحادها في ظل ما أفرزه اجتياح فايروس الموت "كورونا"، مروراً بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المتحركة دوماً على فالق الزلازل السياسية والاجتماعية، وصولاً إلى منطقة الخليج التي عقدت دولها العزم على ركوب موجة التغيير باتجاه صياغة عهد عربي مختلف في البناء والأداء وفي الشكل والمضمون، عن سالف الأزمنة السحيقة من التخلّف الفكري والتصحّر الحضاري .. إنه عهد السلام الإسرائيلي.
خطفت دولة الإمارات السبق في التقدّم بخطوة جوهرية نحو إعلان سقوط القطيعة الهشّة، وآن الأوان لتطبيع شامل ومباشر للعلاقات مع إسرائيل، بعد أكثر من ربع قرن من العلاقات التي كانت تجري تحت الطاولة وفوقها أو بمحاذاتها أحياناً، وبات يحق لراعي الاتفاق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يدوّن في سجل إنجازاته هذا التطوّر المحوري و"الانفراجه الكبيرة في اتفاقية سلام تاريخية بين الصديقين العظيمين، إسرائيل والإمارات"، ولا بدّ أنها ستفتح الباب أمام انهيار سريع لباقي الجدران، التي كانت حتى الأمس القريب تقف حائلاً بين العرب وبين "أبناء عمومتنا" بحسب تعبير الفريق ضاحي الخلفان، ويحق لبنيامين نتنياهو أن يعتبر يوم الاتفاق بأنه "يوم تاريخي"، وكل ذلك طبعاً من أجل حلّ قضية فلسطين التي تعاني منذ أكثر من سبعين عاماً من التهميش والقضم، ولا بد اليوم من استقرار الشعب الفلسطيني في دولته إلى جانب دولة اليهود "أبناء العم"، والانصهار.. في عهد السلام الإسرائيلي.
لا مفّر أمامنا من تقدير الشجاعة الإماراتية في كسر الحاجز النفسي، وتمهيد الطريق أمام باقي الدول الخليجية التي تتحيّن الفرصة السانحة منذ سنوات لإماطة اللثام عن اتجاهاتها اللاهثة وراء الدخول في العصر الأمريكي - الإسرائيلي الجديد، "لنستطيع معاً بناء مستقبل أفضل للمنطقة ولجميع شعوبها" وفق ما أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي؛ والأسس التي تكفل تحقيق هذا الهدف جاهزة منذ زمن طويل بالنسبة للبحرين التي سرعان ما ستلتحق بالركب الإماراتي وقد تليها سلطنة عمان في وقت لاحق، في حين أن "تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية قادم وهو أمر حتمي"، كما أكد مستشار ترامب جاريد كوشنر، و"ستكونان قادرتين على تحقيق الكثير من الأعمال العظيمة معاً"، لا سيما أن "جيل الشباب السعودي معجب بإسرائيل ويسعى لإقامة علاقات معها"، والإنخراط بذلك.. في عهد السلام الإسرائيلي.
منذ العام 1979 نظر العرب إلى مصر بعد اتفاقية كامب دايفيد على أنها خالفت الإجماع العربي، ويبدو أن العرب ولا سيما الخليجيين كانوا على خطأ، حيث بدأت هشاشة المقاطعة تأكل جدارها شيئاً فشيئاً مع مرور السنوات، وكان لا بد من استشراف التفكير الواقعي في التحوّلات السياسية والاقتصادية في المنطقة، ولم يعد أمامنا إلا أن نرفع الراية البيضاء أمام هذه الواقعية التي قادت إلى الجمود والنأي العربي بالنفس عمّا جرى ويجري على الساحة الفلسطينية، فقضية فلسطين تحوّلت من عنصر جامع إلى عنصر تفريق للموقف العربي، ولا أحد من العرب، أو غالبيتهم، في وارد المواجهة مع إسرائيل في ظل الدعم التي تتلقّاه من الولايات المتحدة وأوروبا، وهما نفسيهما يدعمان ويحميان دول الخليج أيضاً من الأخطار الخارجية، ولذلك فإن أي صدام بيننا وبين إسرائيل لا يتوافق مع الواقعية بشيء، وبالتالي لم يعد هناك بدّ من أن ننضمّ جميعاً تحت المظلة الأمريكية، وننفض غبار الجامعة العربية الرثّة، وننعم بذلك.. بعهد السلام الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار أن ترامب ونتنياهو هما المستفيدان الأكبران من التطبيع العربي - الإسرائيلي، سياسياً وانتخابياً وكذلك أمنياً واقتصادياً، ومن الطبيعي التوقّع بأن تصل خطوات التطبيع إلى الدول العربية في أفريقيا وفي مقدمتها السودان التي عادت إلى الحظيرة الأمريكية بعد إسقاط الأخواني عمر البشير عن الحكم في الخرطوم، ولن تجد إسرائيل صعوبة في إرساء العلاقات مع المغرب، وهكذا تكون قد حققت اختراقاً عربياً مهماً سيمتد بالضرورة للهيمنة على دول شمال أفريقيا بأكملها، وهكذا تصبح معظم سواحل حوض البحر الأبيض المتوسط، والممرات المائية في منطقة الخليج تحت السيطرة الأمريكية - الإسرائيلية، ولن يبقى صامداً في خارطة الانهيار العربي سوى لبنان وسوريا، وهما سيشكلان معضلة فعلية أمام الانفلاش الإسرائيلي في المنطقة، وهنا يأتي الدور السعودي في تذليل هذه العقبة وصولاً إلى إنجاز التسوية الشاملة والدخول فعلاً.. في عهد السلام الإسرائيلي.
إنها فرصة تاريخية مهمة أمام العرب والمسلمين ليقرّوا أعينهم بزيارة القدس والمسجد الأقصى، ولم يكن أمامنا إلا التسليم لإسرائيل لنحظى بهذا الشرف الذي ننتظره منذ عشرات السنين، وينتظرنا أبناء عمنا اليهود لزيارتهم والتجوّل معهم في أحياء مدينة القدس العتيقة؛ وهذا يستلزم، لترسيخ التفاهم وإشاعة الثقة بين الشعبين، من أن نقابلهم بالمثل، ويصبح بإمكاننا أن نطوف جنباً إلى جنب معهم حول الكعبة المشرّفة في مكة المكرّمة، ونتشارك الزيارة والصلاة في الحرم النبوي الشريف في يثرب القديمة (المدينة المنوّرة).. وهكذا نكون فعلاً قد عبّدنا الطريق للدخول في .. عهد الاستسلام العربي واعادة اليهود الصهاينة الى أرض المسلمين الأولى بعد قرون من اقصائهم.