(مبارك الفقيه/ راصد الخليج)
"يا الله حيه.. نوّرت المملكة".. وعاد قمر الدوحة يضيء سماء المملكة بعد نيّف وثلاث سنوات عجاف من الغياب، منذ 5 يونيو/ حزيران 2017، وهبّ النسيم القطري على ربوع المملكة السعودية، وتعانق الأميران الحبيبان بعد أن تبدّدت سحب الصيف الثقيل، واندثر غبار الصحاري الذي ملأ الأجواء العربية من المنامة إلى الرياض وأبو ظبي وصولاً إلى أهرام الجيزة في مصر الكنانة.
وأخيراً التقى الأخوة حول ديوان القهوة الخليجية الأصيلة، ولم ينفع السعي الكويتي المحموم لإعادة بناء جسور الصلة بين الأشقاء الأعداء، ورحل أمير الكويت الشيخ صباح دون أن تقرّ عينه في رؤية الجمع من جديد، حتّى ضرب دونالد ترامب بيده على الطاولة حاسماً القرار، وتوّلى صهره المستشار جاريد كوشنير إرسال الإشارة، وسرعان ما انفتحت الأجواء في البرّ والبحر والجو، قبل أن يجتمع حبر الأشقاء على بيان قمة مصالحة دول مجلس التّعاون الخليجي في دورة أعمالها الـ 41 في العلا.
قيل الكثير في الإعلام كما في البيان المعدّ سلفاً عن سيل العواطف الذي أغرق أعمال القمة، وعن كمّ الإبتسامات العريضة التي ارتسمت على وجوه المشاركين، وكأنها دمغة مثبّتة بأفضل مساحيق التجميل لا تزول بفعل الشراب العامر في أنخاب المحتفلين بالصلح، فما حصل أعدّ على أقصى وتيرة من العجلة، ولم يأخذ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وقته الكافي لإقناع أقرانه في قرار المقاطعة والحصار بحضور القمة ومشاركته فرحة اللقاء من جديد، فلم يحضر توأمه الإماراتي ولي العهد محمد بن زايد، ولا ظهيره ملك البحرين حمد آل خليفة ولا حليفه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولا جاره العماني السلطان هيثم بن طارق، فما الذي جرى يا ترى؟!
قيل إنّه أريد لهذه القمّة أن تكون جامعة للكلمة موحّدة للصف، وتهدف إلى إعادة اللّحمة الخليجية، وتترجم تطلعات السعودية ودول المجلس للمّ الشمل والتّضامن لمواجهة التحديّات التي تشهدها المنطقة، و"مواجهة "تحدّيات السلوك الإيراني التّخريبي" بحسب تعبير ابن سلمان، وتمّت بعد اتّفاق ضمني يقضي بإنهاء دول الحصار مقاطعتهم لقطر مقابل تخلّي الدوحة عن دعواها القضائية، ولكن ما تحت الجمر ليس كما فوقه، فليس سهلاً أن تتحوّل قطر الأخوانية، والراعية للإرهاب، والحليفة لإيران، والمصدّرة لعمليات التخريب، و... و...، أن تصبح عند السعودية شقيقاً للخير، وعند مصر ولياً حميماً، وأن تصبح عند الإمارات صديقاً صدوقاً، وعند البحرين أخاً عزيزاً، أما العُماني فله مع قطر حكاية أخرى.
وإذا ما اعتبرنا هذا التشكيك خبيثاً، وأن دم الأخوة لا يمكن أن يصبح ماءً، فلماذا استمر الشّحن العدائي بين قطر ودول الحصار الخليجي هذه المدّة الطويلة؟! فهل تخّلت الرياض عن قرارها بعزل قطر سياسياً وجغرافياً؟! وهل تجاوزت أبو ظبي أحلامها بالتسيّد على حساب الرياض وبإعادة قطر أرضاً صحراوية خاوية؟! ولماذا يخشى السيسي أن يكون الإتفاق السعودي – القطري اتّفاقاً منفرداً على حسابه؟! فحتّى بعد أن أعلنت الرئاسة المصرية ترحيبها بالإتفاق إلّا أنّ الإعلام المصري الذي ينطق بلسان الحكم يفصح عمّا تخبئه النفوس، حتّى أنّ بعضهم كان جزَم بالقطع الأكيد أنّ القاهرة لن تشارك في القمّة، ثمّ يعود هؤلاء ليعتمدوا خطاباً مختلفاً دون أن يخفوا اعتراضهم على الإتفاق باعتبار أنّ "الدّم المصري الذي أهرقه الأخوان المسلمون بدعم قطري لا يمكن أن يُنسى"، و"مش عايزين لحم ولا فراخ ولا أكل ولا شرب .. مع كامل الإحترام للأشقاء في السعودية والكويت على كل جهودهم".
لو كانت السعودية بهذا الصلح تريد أن تُهدي إنجازاً لترامب قبل عودته إلى البيت، فها هو يتخبّط في رعونته ويدفع صبيانه (the boys) ليعيثوا بالمؤسسات الدستورية خراباً، وينحدر بالديمقراطية الأمريكية لتصبح تحت الأقدام، ويجعل من الولايات المتحدة دولة لا تختلف عن جمهوريات الموز بحسب الرئيس السابق الأرعن الآخر جورج بوش الإبن!! ولو كانت السعودية تريد بهذا الصلح أن تمهّد لعلاقة سليمة مع جوزيف بايدن، الذي يفضّل أن يستلم الحكم دون أن يشغل دماغه بحلّ خلاف سخيف بين منظومة دول من المفترض أن تكون موحّدة ومنسجمة مع التوجّه الأمريكي، فها هو اليوم يواجه معضلة داخلية سيرثها من ترامب قد تدفعه إلى إعادة تشكيل النظام الأمريكي وترميم صورة الولايات المتحدة التي ازدادت تهشّماً!! وتبقى الحسرة الأقوى على "فستق" المليارات التي ذهبت سدىً مع سقوط الإمبراطورية الترامبية.
من المؤكد أنّ الصلح والوفاق هو الخيار الأفضل بين الأخوة، وبات هذا الخيار ملحّاً بقوّة في هذه المرحلة التي شهدت تمزّق جامعة العرب، وفي حال نجحت قمة العلا في إعادة وصل ما انقطع بين دول مجلس التعاون الخليجي، فإن المسؤولية تصبح أكبر على عاتق السعودية لتعمّم هذا الوفاق على سائر الأقطار العربية، فلا يعود هناك جرح نازف في جسد الأمة العربية من اليمن إلى سوريا ولبنان فليبيا والجزائر والمغرب، وصولاً إلى فلسطين التي تحتاج اليوم إلى هذا الدّعم الموحّد أكثر من أي وقت مضى، أما إذا كان الصلح والوفاق فولكلورياً لأجلٍ مسمّى وهدف محدّد مرسوم في الغرفة البيضاوية الأمريكية، فهذا يعني انكشافاً عربياً أكبر أمام الإجتياح الإسرائيلي للمنطقة برمّتها في زمن التّطبيع الشّامل، وبالتّالي يصبح الخليج ساحة إسرائيلية متقدّمة للّعب بالنار، وحينها لن تعود قمم التعاون ولا بيانات التّضامن ذات جدوى، وعلى العرب "شالوم".