كريستين سميث ديوان - معهد دول الخليج في واشنطن – ترجمة الخليج الجديد-
كانت الأزمة الخليجية نتيجة مزيج من المخاوف والتنافس الخليجي والإقليمي، والانقسامات الأيديولوجية، والعداء الشخصي. وبالنظر إلى هذا التعقيد، فليس من المستغرب أن يكون هناك ترحيب متفاوت بنهاية الأزمة من قبل المسؤولين، وكذلك الحال ليس من المستغرب أن يقارب المحللون هذا الانفتاح الدبلوماسي وفق تفسيرات مختلفة.
قادت السعودية الخطوات الأخيرة لإنهاء الأزمة فيما لم تظهر الأطراف الأخرn المشاركة في الحصار (الإمارات والبحرين ومصر) سوى القليل من الحماس لهذه الخطوات حيث لم تمتثل قطر للشروط الـ13 التي أعلنتها الرباعية والتي شملت إغلاق قناة "الجزيرة"، وتقليص التعاون مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر، وإنهاء العلاقات مع "الإخوان المسلمون" والجماعات الإسلامية الأخرى؛ ووقف الاتصال بشخصيات معارضة داخل دول الخليج الأخرى.
وبينما استضاف ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" قمة مجلس التعاون الخليجي للمصالحة في العلا، وتحدث عن ضرورة تعاون دول الخليج في مواجهة إيران، فقد نفى وزير الخارجية القطري وجود أي خطط لتشديد الموقف تجاه طهران، واقترح بدلاً من ذلك القيام بدور الوساطة.
ويبقى السؤال لماذا شرعت السعودية في هذا الحل الدبلوماسي؟ فسر معظم المحللين التوقيت، بالتزامن مع انتقال الرئاسة الأمريكية إلى إدارة "بايدن". فأمام الخطط الأمريكية الجديدة لإعادة الارتباط بإيران ومراجعة العلاقات الأمريكية السعودية، كان السعوديون حريصون على تقديم أنفسهم كشركاء في حل النزاعات في المنطقة.
ومع ذلك، يبدو أن المبادرة السعودية تتجاوز ذلك. فقد ترافق الانفراج مع قطر مع عدد من التحركات السعودية الأخرى مثل بحث خفض التصعيد مع تركيا؛ واستيعاب روسيا ومنتجي النفط الآخرين؛ والإسراع في تسوية المحاكمات والاعتقالات السياسية التي أثارت إدانة في الخارج. ويشير كل ذلك إلى مرونة جديدة في الوقت الذي تدير فيه السعودية التداعيات الاقتصادية لوباء "كورونا".
ويتطلب الفهم الكامل لهذا التحول المفاجئ فهمًا أكثر دقة لتقاطع الأهداف المحلية السعودية مع الطموحات الوطنية. ولعل الأداة الأقرب لفهم كليهما هي دراسة رؤية "بن سلمان" لسياسة المملكة والمجتمع والاقتصاد والتي تركز على الشباب.
في الفترة التي سبقت احتجاجات الربيع العربي في المنطقة، شرع جيل الألفية السعودي المولع بوسائل الإعلام في حركة إصلاحية غير عادية من أسفل، وأطلق مجموعات إنتاج فني وإعلامي جديدة، ومجتمعات إصلاح اجتماعي سياسي، وحملات لحقوق المرأة، وكلها تبنت بوعي أجندة التغيير التي يقودها الشباب. وكان العديد من هؤلاء القادة الشباب، إن لم يكن معظمهم، قد أسرتهم انتفاضات الربيع العربي، والتي تم الدفاع عنها بشكل واضح في الخليج من خلال وسائل الإعلام المدعومة من قطر.
للقيام بالإحياء الوطني السعودي، سعى "بن سلمان" إلى استيعاب طموحات التغيير هذه، ولفها بعباءة وطنية، وفصلها عن مسار الربيع العربي. ولذلك أصبح حصار قطر والحملة الوطنية التي تلت ذلك أمرا محوريا لتحقيق ذلك.
كانت الحملة ضد قطر في قلب الحراك الوطني الجديد، الذي وفر وسيلة للفخر السعودي واختبارًا للولاء السياسي. وبين عشية وضحاها، أصبح أي ارتباط مع قطر ووسائل الإعلام التابعة لها والذي امتد إلى ما وراء "الجزيرة" إلى مواقع الويب الأخرى الموجهة للشباب ووسائل الإعلام عبر الإنترنت التي كانت تحظى بشعبية لدى جيل الألفية السعودي، معادلاً للخيانة. كانت التلميحات حول العلاقات مع قطر حاضرة في موجات اعتقال رموز المعارضة الإصلاحية والفكرية في سبتمبر/أيلول 2017 ومايو/أيار 2018 وأبريل/نيسان 2019.
أعادت هذه التحركات تشكيل بيئة وسائل التواصل الاجتماعي من كونها منصة للحوار إلى توجه أكثر قومية يتطلب دعمًا مفتوحًا للقيادة. ومهدت عمليات الحظر الفعالة لوسائل الإعلام المؤثرة والتي كانت مدعومة من قطر الطريق للتوسع المتمركز حول السعودية في وسائل الإعلام، مما وفر للقيادة وسيلة لتشكيل رد الفعل العام على التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي يتعرض لها السكان السعوديون بشكل عام.
وكان هذا النهج ناجحًا من وجهة نظر القيادة وداعميها فقد تم إقصاء كل أصحاب الآراء الناقدة بحجة أن نقدهم مستوحى من الخارج. وقال رئيس تحرير جريدة "الشرق الأوسط" الأسبق "عبدالرحمن الراشد": "في ظل غياب دولة قطر، نجحت السعودية في تنفيذ العديد من الإصلاحات الاجتماعية ومكافحة التطرف الديني. وهذا يثبت أن قطع الاتصال مع قطر ألغى أصوات المعارضة المأجورة. كما أثبت أن المجتمع السعودي ناضج وجاهز للتغيير الإيجابي، عندما يتوقف التدخل الأجنبي، وخاصة من قطر".
ساعدت الحملة المناهضة لقطر في جعل "بن سلمان" مسؤولاً عن البيئة الإعلامية والسياسية ووفرت سببًا لحشد الغرور الوطني حوله. لكن الحملة وتجاوزاتها سببت مشاكل أخرى. فقد أدى اعتقال وملاحقة المعارضين في الخارج إلى زيادة التوترات مع الحلفاء الغربيين، في حين واجهت الإجراءات المتخذة لتهميش قطر ووسائل الإعلام التابعة لها تحديات قانونية. ومع مرور الوقت، بدأت هذه الأمور في تهديد المشاركة الدولية والاستثمار الضروريين للتحول المتمركز على الشباب، والذي أعطته القيادة الأولوية.
ومما يشير إلى هذه المخاوف طبيعة التنازل الوحيد الذي قيل إن دول الحصار حصلت عليه من القطريين وهو تجميد الدعاوى القضائية الدولية ضد السعودية وحلفائها الخليجيين. ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن قطر وافقت على إسقاط القضية التي رفعتها ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية بدعوى التمييز ضد مواطنيها؛ وقد تم رفض هذه القضية لاحقًا من قبل المحكمة لعدم الاختصاص.
ولكن الدعاوى القضائية الأكثر أهمية معروضة على منظمة الطيران المدني الدولي، حيث تحدت قطر القيود المفروضة عليها في المجال الجوي (حتى وقت قريب) من قبل الدول الأربعة وطلبت 5 مليارات دولار كتعويض في قضية كان من المتوقع الفصل فيها في عام 2021. وكان من المقرر أن تفصل منظمة التجارة العالمية في الشكاوى ضد دولة الإمارات مطلع العام الجاري.
توضح قضية أخرى معروضة على منظمة التجارة العالمية تم الحكم فيها لصالح قطر إمكانية أن يؤدي هذا التقاضي إلى تعطيل خطط الاستثمار السعودية. ففي إطار حملتها ضد الإعلام القطري، حظرت السلطات السعودية قناة "beIN الرياضية"، التي تحمل ترخيصًا إقليميًا لتغطية الأحداث الرياضية الرئيسية، بما في ذلك بطولات كرة القدم الدولية التي تحظى بشعبية كبيرة، مثل كأس العالم.
وقد ظهر مزود بديل -من الواضح أنه قام بالتحايل على الاسم القطري باسم "beoutQ"- يقرصن حقوق البث التي دفعت "beIN" مقابلها مبالغ كبيرة. وفي عام 2020، قضت منظمة التجارة العالمية بأن السعودية لم تفعل ما يكفي لمنع هذه القرصنة وأنها تنتهك القواعد العالمية بشأن الملكية الفكرية. وجاء الحكم في الوقت الذي كانت فيه السعودية تنتظر قرارا بشأن شراء الفريق الإنجليزي "نيوكاسل يونايتد"، مما أدى إلى تعطيل الصفقة.
ويوضح هذا الحادث معضلة المملكة التي تسعى إلى المنافسة في مجالات أحرزت فيها دول الخليج المجاورة نجاحات بارزة. فقد اعتمدت استراتيجية قطر العالمية على الرياضة كركيزة أساسية وقد تجلى ذلك في محاولتها الناجحة لاستضافة كأس العالم 2022. وتحرص السعودية على تطوير محفظتها الرياضية الداخلية والدولية، من أجل اكتساب الهيبة الدولية وباعتبار ذلك أداة طبيعية لجذب اهتمام الشباب المحلي.
وفي الوقت نفسه، تؤدى استراتيجية التنويع الاقتصادي إلى دخول المملكة في منافسة مباشرة مع الإمارات وقد تجلى ذلك في منتدى الاستثمار الدولي الأخير في الرياض حيث بدأ "بن سلمان" في جذب الشركات الدولية لنقل مقراتها من دبي إلى الرياض من خلال الحوافز الضريبية.
وبينما رحبت أبوظبي بالانفتاح الاجتماعي والاقتصادي الجديد في السعودية لأسباب سياسية، يبقى أن نرى كيف سيتأثر الاقتصاد الإماراتي بالاستثمارات السعودية الضخمة في مجالات مثل السياحة والترفيه التي تهدف إلى إقناع السعوديين بقضاء المزيد من أوقات فراغهم وأموالهم في الداخل. وستصبح المنافسة على السياح الدوليين عاملاً حاضرا أيضًا.
وقد اكتسبت هذه المخاوف أولوية مع تفكير جميع هذه البلدان في خسائرها والمشهد الاقتصادي الجديد بعد الوباء. وتفرض الحاجة إلى تحسين بيئة الأعمال والاستثمار الإقليمية إعادة التفكير وإعادة تقييم تكاليف النزاعات الإقليمية. وتشكل بطولة كأس العالم المقبلة التي تستضيفها قطر اختبارا حاسما حول ما إذا كانت هذه الدول الطموحة يمكن أن تستفيد بشكل متبادل من الانجذاب الدولي إلى المنطقة، أو ما إذا كانت ستستمر في التنافس الاقتصادي والسياسي.
يتميز التحول السعودي الجديد الذي يقوده الشباب بتناقضات مثيرة، فهو يزاوج بين القومية الحازمة مع الترويج لتواصل عالمي أكبر وتوجه أكثر عالمية. ويمكن رؤية هذا التناقض في العديد من جوانب التنافس مع قطر. ففي بداية الأزمة، كانت الأولوية للفوائد السياسية من تحفيز العوامل القومية، لكن التداعيات الاقتصادية لهذا التوجه هي التي تحتل الأولوية اليوم.
يريد السعوديون أن يُنظر إليهم على أنهم لاعبون في الأسواق والثقافة العالمية وأن يعززوا مشاركة الشباب في مجالات جديدة مثل الفن والتكنولوجيا، وهم بحاجة إلى شركاء دوليين سواء في الداخل أو في الخارج لإنجاح هذه الاستراتيجية التي تعرضت لاهتزازات حادة نتيجة وباء "كورونا"، لذا فإن إنهاء المواجهة مع قطر هو خطوة واحدة في طريق إزالة العقبات أمام هذه الاستراتيجية.