يبدو أن السيد جبريل الرجوب قد استفاد من منصبه رئيساً للاتحاد الكروي الفلسطيني، فأصبح يجيد حراسة المرمى، ويتنقل في ملعب كرة السياسة كظهير أيسر وأيمن.
ببراعة المدافع يبرّر زيارة اللواء أنور عشقي (رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط) لفلسطين المحتلة، ويذهب إلى اعتبارها خطوة جبارة في مواجهة التطبيع. وهنا ينقل الرجوب وجهة نظر رئيسه أبو مازن، وسياسة السلطة الفلسطينية التي ضربت رقماً قياسياً في فتح بوابات التواصل مع الكيان الصهيوني على حساب الحقوق الوطنية، ولم تستفد من أي درس خلال مسيرة أوسلو الكارثية.
لم يهدأ صخب الزيارة – الفضيحة التي نسّقتها السلطة في رام الله، عبر «المقاتل» السابق جبريل الرجوب، ليضعه بعض السياسيين السعوديين المحسوبين على البلاط الملكي في قائمة الشك بدوره ونزاهته. وكأنهم يحاولون تبييض صفحة اللواء أنور عشقي، «البريء» من خطوة التطبيع العلني المدعوم ملكياً، والذي يقول: «المقاومة الفلسطينية لم تقتل ذبابة». أيضاً، سبقت الزيارة تنسيقات مشتركة على أعلى المستويات القيادية في المملكة السعودية.
الأمر واضح إذاً في خلفياته السياسية ومحاوره، التي اشتدت منذ بداية الحرب على سوريا، وتلازم معها ضخ مشاريع إنهاء القضية الفلسطينية وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، إضافة إلى التنازل عن القدس في أخطر صفقات النظام الرسمي العربي.
هندسة من نوافذ أوسلو
خطوة أنور عشقي ما كنت لتحصل من دون المباركة الرسمية من السلطة في رام الله، الباحثة في جهات الأرض الأربع عمن يقدمها لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، لفتح صفحة تفاوض جديدة. قد تكون المملكة العربية السعودية من سيعمل على هذا التقريب، خصوصاً بعد مبادرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن مشروع كبير للوصول إلى حلّ الصراع. وقد أبدى نتنياهو، أخيراً، قبولاً مبدئياً بنقاش مقترحات الرئيس المصري، الذي شكر الكيان الصهيوني عبر وزير خارجيته سامح شكري، خلال زيارته الأخيرة للأراضي المحتلة.
لذا، إن فتح البوابات والنوافذ للتطبيع البيني تحت إشراف السلطة الفلسطينية وهندستها لم يعد سراً، وقد بدأت تجاهر بذلك في الاجتماعات الداخلية، أي إنها جاهزة للتفاوض مع الكيان من دون شروط. وأتت التسريبات في هذا الإطار من أكثر من مصدر قيادي فلسطيني، فيما كان الرد من نتنياهو أن الوقت غير متاح الآن في ظل تصاعد «الإرهاب» في مناطق السلطة.
أخطر ما يجري اليوم، أن السلطة في رام الله تقع في شباك الأنظمة العربية عن سابق ترصّد، وتجهد في إقناع الرأي العام بأنها ضد التدخل في الملفات العربية والإقليمية، وأنها حريصة فقط على التدخل الإيجابي من قبل «الأنظمة العربية» في ملف الصراع. غير أن الواقع السياسي يقول إنها شجعت النظام الرسمي، عبر سياساتها التنازلية، ليطل برأسه للتخلص من فلسطين وقضية شعبها.
الإيقاع المتسارع لبعض الأنظمة الرسمية العربية في إشهار التحالف مع الكيان الصهيوني، وعلى رأسه المملكة السعودية، يشير إلى أن هناك ملفات تطبخ على نار ساخنة، أهمها الملف الفلسطيني. وبالتالي، هناك محور خليجي متقدم في التحالف مع الكيان الصهيوني يجري تشكيله، بعدما ظهرت معادلات جديدة في الحرب على سوريا، فضلاً عن التقارب الدولي للوصول إلى توافقات قد توقف لهيب هذه الحرب.
الحلقة الأضعف هنا هي السلطة في رام الله، التي تدخل بخطورة في أرض مشتعلة كي تنقذ انهياراتها، في ظل تهديدات الحكومة الصهيونية باتخاذ إجراءات صارمة إن بقيت متردّدة في موقفها من التقدم بخطوة صريحة لإنهاء ملف الصراع. ويبدو أن الترتيبات التي تُعَدّ، ليست بعيدة عن قيادة السلطة، فهناك مشروع «إماراتي ــ مصري ــ سعودي» يلتقي حول ترتيبات ما بعد «أبو مازن»، لتعويم شخصيات معروفة بتاريخ علاقتها مع الكيان الصهيوني، بهدف الشروع بملفات على رأس أولوياتها محور المقاومة.
شراكة في شرعنة الاحتلال
وحتى لو ظهرت أصوات خليجية تدين زيارة اللواء المتقاعد أنور عشقي، لكنها تعكس التوجهات الرسمية الخليجية لفتح بوابة «كامب ديفيد» جديدة تكون على الطريقة السعودية، وتُمكن من تهيئة المناخات العربية بعدما استحوذت المملكة على القرار الخليجي، وجعلت من حلفائها مجرد دمى داعمة لقراراتها المتهوّرة والكارثية.
ومع تدحرج كرة الثلج السعودية في الذهاب نحو الإفصاح عن العلاقات مع الكيان الصهيوني، وإن كان بشكل غير رسمي، تُطرح أسئلة على الشارع العربي الذي لم يضلَّل رغم قصف ربيع الدم. والسؤال الأبرز: هل تذهب صورة التطبيع وتبريره اليوم إلى أهدافها ويصمت الشارع؟ أما الإجابة، فتعرفها الأنظمة التي لم تترك وسيلة إلا استغلتها لتنثر ذرائعها، خلال عقود الصراع، بشأن جدوى الحرب المفتوحة مع الكيان الصهيوني. وربما اليوم، هناك من يدفع مصر إلى مربع تفعيل علاقاتها أكثر مع الكيان الصهيوني، وقد تبدّى ذلك بزيارة وزير خارجيتها سامح شكري وامتداحه الدور الصهيوني في عملية السلام، والعلاقات «الاستراتيجية» التي تربط الطرفين.
وفي ضوء التطورات الحاصلة في المشهد العربي والإقليمي، تواصل المملكة سياسة التوريط لبعض النظام الرسمي العربي، وتفعيل علاقاتها مع السلطة في رام الله للقبول بالمبادرة المصرية، كبديل من المبادرة الفرنسية مع الحفاظ على روحيتها، وأيضاً من مبادرة الملك عبد الله في مؤتمر قمة بيروت 2002. وكلها تأتي في هدف واحد، هو إنهاء قضية فلسطين وتصفية حق اللاجئين.
لقاءات أنور عشقي بقادة الكيان الصهيوني، والحركة الدبلوماسية المصرية لتسويق مبادرة السيسي، وأداء السلطة في رام الله، كلّها خطوات تشير إلى حالة فقدان التوازن العربي والفلسطيني الرسمي. ويمكن الذهاب إلى خيارات كارثية تنسف الحق العربي، وتجعل من كيان الاغتصاب مشرعناً، وتشكل أحلافاً لمستقبل يجعل الأميركي صاحب الكلمة الفصل في المنطقة.
والحسابات التي تراهن عليها السعودية وحلفاؤها في المنطقة، تخضع لرغبات سياسية بعيداً عن قراءة مكوّنات الواقع العربي الشعبي، وإن بدا ضعيفاً في إطاره العام. لكن هذا الواقع هو الذي أسقط كل الأحلاف التي ذهبت لتقسيم المنطقة عبر عقود الصراع، وهذا المدّ الشعبي اليوم على ثقل حركته لن يَسقط في فخاخ ترسمها أنظمة رسمية عربية، تُسقط المقدّس الوطني خدمة لمقدّسها السلطوي وبقائها متسيّدة على رقاب الشعوب.
بسام رجا - الأخبار اللبنانية-