لا يحتاج المطبعون المتحذلقون، من الذين يقولون كلمة حق يراد بها باطل، أن يذكرونا بأن هناك فرقا بين الإنسان اليهودي واليهودي الصهيوني. فلقد حسم القرآن، وهو روح الثقافة العربية ومصدر أساسي من مصادر قيمها الإنسانية، حسم الموضوع في الآية الكريمة التالية: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن باللُه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
هذه الآية هي من محكم القرآن وروحه، وهي تؤكد بصورة لا لبس فيها بأن أتباع أديان الإسلام والمسيحية واليهودية، إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، فإن لهم أجرهم عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وإذن فلا توجد مشكلة بين العربي المسلم والعربي المسيحي مع اليهودي. لكن، وبكل صراحة تامة، هل تنطبق عالمية الآية وتسامحها الديني المبهر على اليهودي الذي يؤمن بالأيديولوجية الصهيونية الداعية لأن ينخرط اليهودي، لا في عمل صالح قائم على الحق والعدالة والأخوة الإنسانية، وإنما ينخرط في عمل شرير قائم على سرقة أرض الغير وإخراجهم من ديارهم ونهب ثرواتهم واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية في أرضهم المغتصبة؟
هل تنطبق الآية على أي يهودي لا يجهر بصورة لا لبس فيها ولا غمغمة بأنه لا يقف مع السياسات العنصرية الاستعمارية الاستيطانية التي مارسها الصهاينة الأوائل ويمارسها اليوم المجرم نتنياهو، من خلال جبروت الجيش الصهيوني وإرهاب الشرطة الصهيونية وخيانات الاستخبارات الصهيونية، ومن خلال مساندة شبه كاملة من بعض الدول من مثل الولايات المتحدة الأمريكية؟ الجواب القاطع هو كلا.
وبالتالي فإن الذين يمدون أيديهم، بأي صورة، وفي جميع المجالات، ليطبعوا العلاقات مع الكيان الصهيوني، حكومة ومؤسسات وأفرادا، وليس مع الوجود اليهودي في فلسطين العربية وفي كل أرض العرب، فإن هؤلاء يخرجون على منطق الآية الكريمة التي تشترط العمل الصالح كجزء مكمل للإيمان بالله واليوم الآخر. هنا أخوة أتباع ديانات التوحيد تصل الى نهايتها.
دعنا نضع جانبا موضوع أهمية الوعي بالفروق بين اليهودي الفرد العادي واليهودي الصهيوني، الذي يرفعه المطبعون مع الكيان الصهيوني كشعار مضلل عند الحديث عن القضية الفلسطينية، ولننظر إلى الفكر السياسي الصهيوني ومفاهيمه تجاه الوطن العربي. ألا يشير الصهاينة الى فلسطين باعتبارها أرضا بلا شعب، وبالتالي فالأرض العربية هي مكان بلا زمان وجغرافية بلا تاريخ؟ أي بلا وجود معنوي؟
هذا بالنسبة للنظرة الصهيونية تجاه العرب، وهي وحدها كافية لجعل التعايش مع الوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة أمرا مستحيلا. لكن الأمر الأخطر يقبع في الركائز الأساسية التي يقوم عليها الفكر السياسي والديني الصهيوني المتشابك إلى أبعد الحدود، تلك الركائز التي تحكم بإطلاق الحياة السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية في فلسطين المحتلة.
أول مرتكز هو الوعد الإلهي الذي يربط ما يسمى «شعب إسرائيل» بأرضه» (أي أرض فلسطين) ولذلك فإن الاستيطان الصهيوني ليس أكثر من عودة اليهود إلى أرضهم وتكملة لتاريخهم وتحقيقا إلهيا لصلوات اليهود عبر القرون. من هنا فإن الحديث الجاري الآن عن يهودية الدولة، ليس إلا فضحا للزيف المدعي بأن ما يسمى بدولة «إسرائيل» هي دولة علمانية ديمقراطية. في صلب تلك «العلمانية» مبدأ العرق المتفوُق والثقافة الصهيونية المتفوقة التي ستقود العالم كله بأمر ومباركة إلهية.
ثاني مرتكز هو الهيمنة والتوسع الديموغرافي. فالتوسع في الاستيطان هو تنفيذ ديني لفكرة «خلاص الأرض» من الأغراب العرب من جهة، وبناء المجال الحيوي الآمن للتوسع العسكري والاقتصادي الإقليمي من جهة أخرى. أما المستوطنون ـ أكانوا من أتباع الرأسمالية أو الاشتراكية المحميون من العساكر ـ فهم جند رواد يمارسون الأحقية التاريخية في امتلاك أرض الأجداد.
ثالث مرتكز هو الفصل المادي والثقافي والاجتماعي العربي عن محيطه اليهودي. فالحواجز في الطرقات وبناء الجدار العنصري الشهير، وعزل القرى الفلسطينية بكل الوسائل، وبناء كل العقبات لتهميش الثقافة العربية الفلسطينية هي بعض من مظاهر إذلال الفلسطيني وإنهاك صبره وإدخال فكرة الهجرة في كيانه.
لنسأل الذين ينادون بالتطبيع كخطوة لإحلال السلام العادل في المستقبل: هل حقا أنه سيمكن التعايش مع فكر ديني وسياسي استعلائي استيطاني وإذلالي صهيوني كهذا، يرمي لتهميش الآخر العربي واجتثاثه؟
ألن يكون التطبيع هو هدية مجانية لا يقابلها أي تنازل في ذلك الفكر المتوحش الأناني الإجرامي، الذي أقام ويقيم الوجود الصهيوني في أرض عربية وعلى حساب شعب عربي؟
إذا كان الفلسطينيون مضطرين للتعامل اليومي مع الواقع الصهيوني الذي يتحكم في كل ذرة من وجودهم المادي والمعنوي، فهل حقا أن التاجر العربي والمثقف العربي والفنان العربي والمستهلك العربي، عبر الوطن العربي، مضطرُ لمصافحة اليد التي تقطر دما ولتقديم التنازلات للسارق الظالم المجرم الصهيوني؟ هل حقا أن الآية القرآنية التي أشرنا إليها تنطبق على واقع العلاقة مع أي يهودي له صلة، في أي شكل مادي ومعنوي، بذلك الاحتلال الصهيوني في فلسطين، أو له صلة بالمؤسسات الداعمة له في أي بقعة من هذه الأرض؟
ما يحتاج أن يفعله الداعون إلى التطبيع، سواء من قادة الحكم العربي ومساعديهم أو من قادة مؤسسات المجتمع المدني العربي، أو من أصحاب النوايا الطيبة العرب، هو قراءة ما يكتبه أو الاستماع لما يقوله الصهاينة عن أحلامهم ومشاريعهم المستقبلية.
عند ذاك سيدركون أننا أمام جحيم صهيوني لن يتوقف إلا بعد أن يبتلع الأخضر واليابس في كل أرض العرب. وهو جحيم لن يوقف تمدده وهيمنته وأحلامه المريضة مد أيادي أصحاب النوايا الطيبة من الغافلين عما يفكر فيه وعما يخطط لما سيفعله.
د. علي محمد فخرو- القدس العربي-