تنطلق رحلة الرئيس ترامب الأولى إلى الخارج من الرياض والقدس، في إشارة تهدف إلى الإظهار للشرق الأوسط والعالم أجمع على السواء بأن حقبة باراك أوباما في السياسة الخارجية قد أصبحت شيء من الماضي. إلّا أن أوباما حطّ في الشرق الأوسط رحال سفراته الأولى إلى الخارج أيضاً، ولكن خط رحلته لم يتضمن إسرائيل، مما سبب تباعداً في العلاقات مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وكان من المواضيع التي تكرر تناولها من قبل إدارته. (وقد ساهمت إسرائيل أيضاً بنصيبها في هذه العملية). وفي القاهرة، قرر أوباما التحدث بلغة تفوق استيعاب القيادة المصرية؛ ففي خطابه التاريخي الذي حمل العنوان "بداية جديدة"، توجّه إلى نفسه بدلاً من العالم الإسلامي الأوسع، وحتى دون أن يذكر حسن الضيافة والصداقة من قبل الحليف القديم للولايات المتحدة حسني مبارك.
وفي المقابل، لا يجد ترامب أي صعوبة في مخاطبة القادة الآخرين وجهاً لوجه - ديمقراطيين كانوا أم لا - فها هم السعوديون يذعنون له بتنظيمهم اجتماعاً ضخماً للملوك والزعماء العرب والمسلمين، بدءاً من العاهل المغربي ووصولاً إلى الرئيس الأندونيسي. وإذا كان أوباما قد أراد مخاطبة المسلمين الذين يفوق عددهم المليار نسمة في العالم، فإن ترامب سيخاطب قادتهم، وهذا أمر يفضّله بالتأكيد تقريباً. ومن المرجح أن تكون صورة الرئيس الأمريكي محاطاً بعدد كبير من القادة المسلمين "الدليل الرئيسي" [الذي سيظهره] محامو الإدارة الأمريكية عند امتثالهم أمام المحكمة لدحض التهم الموجهة إليها بأن حظر السفر المؤقت قائم على تعصب ضد المسلمين.
وتبعث أيضاً زيارة ترامب لإسرائيل خلال رحلته الأولى إلى الخارج، رسالة قوية حول الأهمية التي يوليها الرئيس الأمريكي للشراكة مع القدس. وبطبيعة الحال، لا تشكّل الرحلات السياحية الرئاسية السبيل الوحيد للتأكيد على الالتزامات الاستراتيجية؛ فالرئيس السابق رونالد ريغن كان أبرز صهيوني دخل البيت الأبيض على الإطلاق وشغل منصبه لفترتين ولكنه لم يزر إسرائيل قط. غير أن التوازن الذي تنطوي عليه هذه الرحلة ملفت للنظر كونها تساوي ما بين زيارة خادم الحرمين الأقدسين في الإسلام والتوقف ليلة واحدة في الدولة اليهودية الوحيدة في العالم.
ولكن بغض النظر عن أهمية هذه الدلالات، آمل أن لا يتوقف الرئيس عند المنحى الرمزي. فسوف تتسنى له فرصة نادرة في السعودية وإسرائيل ولاحقاً في بروكسل - حيث سيشارك في قمة لحلف "الناتو" - لتوجيه دفة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والجمع بين الدول التي تسعى إلى الاستقرار، نحو اتجاه يعزز المصالح المشتركة لهذه البلدان. وفيما يلي ثلاثة اقتراحات محدّدة في هذا الإطار:
أولاً، على الرئيس ترامب الاستفادة من اجتماعه مع القادة المسلمين في الرياض لاقتراح شراكة جديدة تتصدى للثنائي المتمثل بالتطرف الإسلامي الذي يهدد السلام والأمن في العالم - أي الجهادية السنية لـ تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«القاعدة» وما شابههما من التنظيمات الفاعلة الفرعية والحركات والجماعات ذات الفكر المماثل من جهة، وبائتلاف الدول والميليشيات والوكلاء الراديكاليين الذي تتزعمه إيران من جهة أخرى.
إن شراكة كهذه - التي لا ترقى إلى مستوى معاهدة متكاملة بل تتعدى إطار الإعلان المبهم - من الممكن أن تتألف من عدة مكونات عسكرية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية وتعليمية وثقافية. ومن شأنها أن تعطي وعوداً بالتسامح والحماية للمسيحيين المقيمين في الدول الإسلامية، فضلاً عن تقديمها عرضاً قوياً جداً بتقبّل إسرائيل والتعاون معها. وستشكل هذه نهاية رسمية للجهود المضللة التي بذلها أوباما لتلبية الطموحات الاستراتيجية الإيرانية على حساب شركاء أمريكا التقليديين في الشرق الأوسط الكبير.
ثانياً، يجدر بالرئيس ترامب أن يربط بين اجتماعاته في الرياض وبروكسل من أجل ضمان الحصول على وعود من مضيفيه العرب وشركائه في حلف "الناتو"، ببذل جهود منسقة من كافة المعنيين لضمان الاستقرار والأمن والحوكمة بفعالية معقولة في الأراضي التي ستحرّر قريباً من قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية» في شرق سوريا وغرب العراق. لقد عانت مختلف دول العالم بصورة شديدة من الإرهاب البشع وتدفقات اللاجئين الهائلة، حين انبثق تنظيم «داعش» من رماد جيل سابق من الجهاديين السنة الذين كانوا قد هُزموا في العراق ولكن لم يتم القضاء عليهم. ولجميع هذه الدول مصلحةٌ في منع تكرار هذه الواقعة. وسوف نحظى قريباً بفرصة أخرى لتصويب الأمور، ولكن ذلك لن يحدث ما لم تأخذ واشنطن زمام القيادة في تنسيق الالتزامات العملية من خلال الدعم المالي والبشري وغيرها من أشكال الدعم.
ثالثاً، يجب على الرئيس الأمريكي أن يستغل نفوذه السياسي الكبير للحث على تحقيق سلام مضمون بين إسرائيل والفلسطينيين. ومن المفارقات بهذا الشأن أن الجانب الأسهل من هذا المسعى يتمثل بإعادة إطلاق المفاوضات المباشرة بين الطرفين، التي تَمَكن الجانبان من عقدها لمدة أسبوعين فقط طوال السنوات الثمانية التي دامت خلالها إدارة أوباما. ومع ذلك، يرغب كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كسب المكانة السياسية والقبول الدبلوماسي اللذين يتأتيان عن خوض محادثات السلام، ولذلك من المحتمل أن يُسكتا نقّادهما في الداخل من أجل تحقيق هذه المكاسب.
لكن التقدم الحقيقي لا يحرز إلا إذا عزز ترامب خبرته الفريدة في "فن الصفقات" عبر ثلاث طرق، وهي:
عليه العمل لإشراك الأطراف الإقليمية النافذة في العملية، مثل المملكة العربية السعودية ومصر، لكي تتمكن من صقل الخيارات والفرص المتاحة أمام الأطراف.
وفيما يتعلق بالفلسطينيين، عليه أن يتبنى الموضوع الذي ناصره الرئيس جورج دبليو. بوش منذ 15 عاماً كشرط للشراكة مع الولايات المتحدة قبل أن يتخلى عنه في خضم حرب الخليج: أي الإصرار على الإصلاحات الداخلية على كافة المستويات، من مكافحة الفساد وقمع التحريض إلى وضع حد للعادة الشائنة المتمثلة بدفع تعويضات للإرهابيين وعائلاتهم.
وتشديداً على مسار القرارات الصعبة التي تنتظر صانعي السلام الحقيقيين، ينبغي على ترامب أن يرسّخ التفاهمات مع إسرائيل بشأن عمليات الاستيطان، من أجل التوصل إلى التزام واضح بحدّ أعمال البناء في الأراضي الواقعة داخل الجدار الأمني وليس في عمق ما سيصبح على الأرجح أرضاً خاضعة للحكم الفلسطيني.
وهناك مخططات كبيرة، يمكن وصفها "هائلة"، تتمثل بمكافحة الجهاديين، وردع إيران، ومنع الانبعاث الجديد لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد هزيمته المرتقبة في العراق وسوريا، وتبنّي مضمون حقيقي في مساعي السلام المتجددة في الشرق الأوسط، وتأمين مكانة إسرائيل المحقّة في المنطقة. وعلى الرغم من كافة القضايا التي تُشتت الانتباه وجميع الخطوات الخاطئة التي تُتخذ على المستوى الداخلي، تبقى هذه المخططات قابلة للتحقيق أيضاً.
روبرت ساتلوف- معهد واشنطن-