مارك لينش - واشنطن بوست-
أعلن الرئيس «ترامب» - الأربعاء - تحولا جذريا في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بإعلانه اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل). وقد أوفى في هذا الاعتراف بوعد له خلال الحملة الانتخابية، وحقق لـ(إسرائيل) ادعاء طال أمده، في حين أثار غضب الفلسطينيين والعرب ومعظم المجتمع الدولي. وعلى الرغم من أن الأمر سوف يستغرق أعواما لفتح سفارة أمريكية جديدة، وإشارة ترامب بعناية إلى أنه يجب تحديد حدود القدس من خلال المفاوضات، كان هناك شعور قوي بوجود تحول لا رجعة فيه.
ومن هنا يجب معرفة 3 أشياء لفهم السياسة الإقليمية وراء هذا القرار الخطير من قبل ترامب بشأن القدس.
لا توجد عملية سلام حقيقية
ركز جزء كبير من التعليقات الرافضة لقرار الاعتراف على تأثيره على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. وربما يكون هذا مبالغا فيه.
فقد كانت حالة القدس دائما إحدى القضايا الرئيسية التي تم تنحيتها جانبا حين الدخول في مفاوضات حول الوضع النهائي. وقد اعتبر الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل) - تقليديا - بمثابة امتياز كبير يمكن تقديمه لـ(إسرائيل) مقابل التوصل إلى اتفاق بشأن قضايا أخرى مثل الحدود أو المستوطنات أو عودة اللاجئين الفلسطينيين. لكن ترامب منح (إسرائيل) هذه الجائزة مقابل لا شيء، في حين لم يحصل الفلسطينيون على شيء في المقابل. وبينما يبدو أن التخلي عن عامل مساومة قوي بشكل استباقي وكأنه تكتيك تفاوضي غريب، زعم عدد من المعلقين والدبلوماسيين السابقين أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس قد يساعد فعلا في مفاوضات السلام.
وعلى الأرجح، فإن الاعتراف بالقدس لن يكون له أي من المزايا المتصورة في المفاوضات. وهذا ليس لأن القدس غير مهمة، بل لأنه ليس هناك عملية سلام حقيقية يمكن عرقلتها، أو إمكانية حقيقية ذات مغزى لحل الدولتين لتبديدها، أو القليل من الإيمان بحياد الولايات المتحدة للتشكيك فيه.
وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية في بعض الأحيان، لم تكن هناك أي عملية سلام إسرائيلية - فلسطينية ذات مغزى منذ فشل إدارة «كلينتون» في قمة كامب ديفيد عام 2000. وبدأت إدارة «جورج بوش» محادثات السلام في وقت متأخر فقط، ولم يكن لها تأثير يذكر. وسرعان ما تراجعت إدارة «أوباما» عن محاولة أكثر جدية لإجراء محادثات سلام في مواجهة رد الفعل السياسي، والحاجة إلى التركيز على أولويات حاسمة أخرى مثل الاتفاق النووي الإيراني. وفي العقود الماضية، تغيرت الحقائق على أرض الواقع بصورة لا يمكن قياسها، ولا رجعة فيها، بطرق جعلت من حل الدولتين أمرا غير ممكن.
التحالف الاستراتيجي
ومع ذلك، فبالرغم من أن مقامرة ترامب تخرج عن مسار مفاوضات السلام التي لعبت دورا هاما في تسهيل الأهداف الإقليمية الأخرى. إلا أن السعي الظاهر إلى السلام، وإن لم يكن تحقيقه، كان منذ زمن طويل الغطاء الذي استخدمته الولايات المتحدة في تحالفاتها مع (إسرائيل) ومع الدول العربية المناهضة لـ(إسرائيل) ظاهريا. وتصبح مقامرة ترامب ذات صلة أقل بالسلام إذا كان هذا الغطاء لا يزال مطلوبا.
وكانت إدارة ترامب تتبع استراتيجية واضحة - إلى حد ما - في الشرق الأوسط تقع ضمن الحدود الطبيعية. وعلى المستوى الأوسع، يسعى ترامب إلى جمع الدول العربية الرئيسية و(إسرائيل) - معا - في تحالف استراتيجي ضد إيران والتطرف الإسلامي. وليس هناك جديد حول هذا الطموح. وسعت كل إدارة أمريكية إلى التوفيق بين التناقضات في التحالف المتزامن مع (إسرائيل) ومع الدول العربية الرئيسية. وقد خلصت كل إدارة - إما في البداية أو بعد تجربة قاسية - إلى أن السعي لتحقيق السلام الإسرائيلي - الفلسطيني ضروري للحفاظ على هذا الهيكل الإقليمي. ومع انضمام مصر والأردن إلى معاهدات السلام التي توسطت فيها الولايات المتحدة، كان تركيز هذه الجهود منذ فترة طويلة على المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
وبالتالي، فإن مقامرة ترامب بشأن القدس لا تهم كثيرا بالنسبة لآفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني، مقارنة بأهداف تحقيق التحالف العربي الإسرائيلي ضد إيران. وقد بدأ تعاون (إسرائيل) الضمني مع دول الخليج ضد إيران يزداد انفتاحا، على الرغم من غياب السلام الإسرائيلي - الفلسطيني.
مقامرة خطرة
وقد أوضحت السعودية وشركاؤها الرئيسيون أنهم يعتبرون المواجهة الإقليمية مع إيران أهم أولوياتهم الاستراتيجية. وتعد السياسة الإقليمية العربية مستقطبة بشكل عميق وتعاني الانقسام، ويرجع ذلك جزئيا إلى الحملة السعودية - الإماراتية المستمرة منذ 6 أشهر ضد قطر. وكان ولي العهد السعودي «محمد بن سلمان» قد انشغل في تحطيم المعايير التقليدية في المنطقة طوال مشوار توطيده السريع للسلطة. وبعد حملة الاعتقالات المفاجئة لمئات الأمراء، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني «سعد الحريري»، والتجاهل العنيد للتكاليف الإنسانية الناتجة عن حصار اليمن، فما الذي يستبعد أن يمارس تجاوزا آخر للقواعد القديمة للسياسة العربية؟
ولا تزال الأراضي الفلسطينية واحدة من القضايا القليلة التي توحد هذه الجماهير العربية المنقسمة بشدة. ولا شك في أن العرب لا يزالون يهتمون بعمق بالأراضي الفلسطينية، وأن للقدس صدى عاطفي وسياسي بارز. وقد تكون هذه المشاعر كامنة الآن، ولكن عمليات المسح والبحوث وبيانات وسائل التواصل الاجتماعي تبين أنها حقيقية وقوية. والسؤال الرئيسي هو ما إذا كان هذا الرأي العام يمكن أن يكون له أي تأثير مفيد على سياسات الدول العربية. ويركز اهتمام الرأي العام العربي في الأعوام الأخيرة على الحروب في سوريا واليمن، وعلى الاضطرابات السياسية المحلية. ويواجه الحشد العام في معظم البلدان العربية عقبات حادة، في أعقاب العودة القاسية لأشكال الاستبداد الوحشية.
وقد اتحدت تصريحات الأنظمة العربية حتى الآن مع غضب الجمهور بشأن القدس، مما يوحي بأنهم يفهمون الحاجة إلى التريث في التعامل مع هذا الشأن. ومن شأن الترکیز الإقليمي على الأراضي الفلسطینیة أن يغير التوازن السياسي في الکتلة السعودية - الإماراتية، وأن يقدم لخصومھم القطريين شريان حياة سیاسیة جديد. وحتى الأنظمة العربية المتناغمة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة قد انتقدت علنا الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، وسمحت بوجهات نظر شديدة ضد القرار للظهور في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة في الفضاء العام. وربما فعلوا ذلك خشية فقدان أرض سياسية لقطر، وكذلك إيران، والحركات الشعبية، أو للمنابر الإعلامية مثل قناة الجزيرة، التي تتبنى حشد الجمهور لأجل القدس. كما أنهم يخشون أي شيء قد يجلب الاحتجاجات مرة أخرى إلى الشوارع، ما يذكر الناس من جديد بآمال التغيير السياسي من الأسفل، وهو الأمر الذي تسعى الأنظمة إلى إخماده على مدى الأعوام الخمسة الماضية.
وتتشابه تلك العوامل مع التداعيات السياسية لحروب (إسرائيل) ضد حماس في غزة. والسؤال الرئيسي هو ما إذا كانت الأنظمة العربية تنوي فعل أي شيء أكثر من الاحتجاج على الاعتراف، أم أنها ستعود إلى التعاون مع الولايات المتحدة و(إسرائيل) ضد إيران دون الاكتراث لشيء آخر. وستكون هذه العوامل هي الدافع لإدارة ترامب في التراخي عن عملية نقل السفارة أو تسريعها.