ديفيد بولوك- معهد واشنطن-
منذ عدة أسابيع، أدليت ببعض الملاحظات العامة انطلاقًا من رحلتي إلى المملكة العربية السعودية في تموز/يوليو، في منشور حمل عنوان "التغييرات السعودية تحت المجهر: أسبوع من المفاجآت". أما في هذا المنشور، فسأركز بشكل أكبر على تحولات معينة في سلوكيات على الأقل بعض الشخصيات السعودية ذات النفوذ تجاه إسرائيل، وتجاه اليهود على نطاق أوسع. ففي حين أن معظم التغطية الإعلامية الحالية للمملكة العربية السعودية يرتكز، منطقيًا، على سياساتها الاستبدادية أو عثراتها الاقتصادية أو إخفاقاتها العسكرية المستمرة، إلا أن هناك بعض التغيرات الاجتماعية والثقافية الملحوظة والأكثر إيجابيةً ربما.
التغيرات في السلوكيات تجاه إسرائيل
لقد ولّد الخوف السعودي من نفوذ إيران المتزايد والانزعاج من التخاذل الأمريكي بشأنه في السابق تغيرًا فعليًا وإيجابيًا في رأي عدد كبير من السعوديين تجاه إسرائيل. فعلى سبيل المثال، خلال مؤتمر في الرياض تمحور حول الأزمة السورية، أشرتُ إلى أنّ إسرائيل تتشارك مصلحة بعض الدول العربية في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وهي تترجم ذلك فعليًا على أرض الواقع. وقد وافق معظم المشاركين السعوديين على ذلك، بمن فيهم عضوين من مجلس الشورى (وهو المجلس الاستشاري لحكومة المملكة العربية السعودية) من خلال الإيماء برؤوسهم، وأعرب لي بعضهم في ما بعد عن دعمهم الشخصي لهذا الاقتراح الذي كان في السابق من المحرّمات.
إلا أنّ ذلك لا يعني أنه لم تتم مقاومة هذه الفكرة على الإطلاق. وبالفعل، صرّح مشارك آخر، وهو أيضًا عضو في مجلس الشورى، متهجّمًا وقال: "إسرائيل هي العدو وستبقى دائمًا العدو، ولا يمكننا التكلم عن مصالح استراتيجية مشتركة بين العالم العربي وإسرائيل". ولكنه لم يدّعِ عدم وجود تلك المصالح المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، كان ذلك حتمًا الرأي الوحيد المناهض لإسرائيل الذي صادفته خلال أسبوعي الأخير في الرياض. ففي الواقع، يبدو أن معظم الباحثين السعوديين الذين تحدثت معهم، وخصوصًا جيل الشباب، لديهم اليوم رأي مغاير قليلًا تجاه إسرائيل، إذ ينظرون إليها من خلال منظور براغماتي نسبيًا عوضًا عن منظور إيديولوجي أو إسلامي.
وبرزت وجهات النظر المتغيرة تجاه هذه المسألة أيضًا في التصريحات الرسمية السعودية والإعلام السعودي مؤخرًا، مع بعض المد والجزر الظاهر في السلوكيات المقبولة علنًا تجاه إسرائيل. فقد عمد أحد معارفي السعوديين، الذي نشر منشورًا على مدونة لاقى تأييدًا شعبيًا كبيرًا، يمدح فيه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الخريف الماضي، إلى كتابة منشور آخر يمدح فيه إسرائيل بعد ذلك بفترة وجيزة، ليخسر بعدها فورًا وظيفته في أحد مراكز الأبحاث. فقد أعرب الأمير محمد بن سلمان نفسه عن بعض التعاطف مع إسرائيل خلال مقابلة مع مجلة "أتلانتيك" في نيسان/إبريل. ولكن بعد شهر من ذلك، تبنى والده الملك سلمان لهجةً مختلفةً، إذ شجب علنًا افتتاح السفارة الأمريكية في القدس وأعرب عن تأييد "أولوي" للقضية الفلسطينية.
ويبدو في الآونة الأخيرة أن عقارب الساعة عادت إلى الوراء مجددًا باتجاه بعض التقدير العلني للمصالح المشتركة مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، أرجعت خانة بارزة نُشرت في 5أيلول/سبتمبر بقلم الناقد الرائد عبد الرحمن الراشد باللغتين العربية والإنكليزية في وسائل إعلام سعودية بارزة الفضلَ لإسرائيل في ما يتعلق بالمساهمة في احتواء إيران ليس في سوريا فحسب، بل في العراق أيضًا. وخلال الحج إلى مكة في آب/أغسطس، أصدرت السلطة الدينية السعودية الرئيسية الممثلة بالمفتي الكبير محمد الشيخ تصريحًا بارزًا بالفعل انتقد فيه إيران على خلفية عرقلتها الحجاج المسلمين، مع الإشارة إلى أن إسرائيل لم تضع عواقب مماثلة في طريقهم. ولم تتسبب تخفيضات المساعدات الأمريكية الأخيرة للأونروا والوكالات الفلسطينية الأخرى سوى باحتجاج سعودي بسيط، في تناقض فادح مع الخطابات الرسمية الغاضبة الصادرة عن مصر والأردن (وأيضًا عن إيران، في خطوة تنم عن نفاق مدهش). ومن اللافت أن وسائل الإعلام السعودية باللغة الإنكليزية، على صحيفة جريدة "عرب نيوز" اليومية، غالبًا ما تقدم هذه الأيام تغطيةً إخباريةً وتعليقات مؤيدة للفلسطينيين أكثر من نظيراتها الأكثر نفوذًا باللغة العربية.
وإن هذه الأدلة السردية والإعلامية مدعومة ببيانات ملموسة من ثلاثة استطلاعات رأي عامة موثوقة أجريتها في المملكة العربية السعودية خلال الأعوام الثلاثة الماضية من خلال مقابلات شخصية منجزة لدى عينات تمثيلية محلية من ألف مواطن سعودي. وتؤيد غالبية كبيرة من الشعب السعودي "حل الدولتين" للنزاع العربي-الإسرائيلي، بما فيه السلام بين إسرائيل ودولة فلسطينية، وتوافق على التعاون العربي الواسع مع إسرائيل عند عقد اتفاق سلام مماثل. وللمفاجأة، يؤكد استطلاع مؤسسة "زغبي" الأخير، الذي غالبًا ما تكون عيّناته التمثيلية مواليةً للفلسطينيين، هذه النتيجة، إذ يُظهر أن معظم السعوديين يدعمون "تحالفًا" فعليًا مع إسرائيل ضد إيران والإرهاب، بعد عقد اتفاق فلسطيني-إسرائيلي. ولكن في غضون ذلك، يشير استطلاعي الأخير إلى أن أقليةً من السعوديين فقط، تمثل حوالي 20 في المئة، تدعم إقامة علاقات علنية مع إسرائيل قبل معالجة القضية الفلسطينية.
وفي لقاءاتٍ خاصة، أخبرني مدراء تنفيذيون إعلاميون ومفكرون عامون سعوديون آخرون أن السلوكيات المناهضة لإسرائيل الراسخة والمتغيرة بشدة ستستغرق بعض الوقت، بما أن التعاطف الشعبي الكبير مع الفلسطينيين ما زال قائمًا. ويصح ذلك على الأرجح أيضًا لدى الكثيرين في المؤسسة الدينية التقليدية. فقد نقلت شخصية إعلامية سعودية شائعةً مفادها أنه منذ وقت ليس ببعيد، أمضى وفد ضخم من كبار الشيوخ أربع ساعات مع الملك سلمان، متوسلين إليه على الأقل أن يبطئ وتيرة التغيير. وأضاف أنه لسخرية القدر، بات بعض الذين كانوا يعتبرون الملك السعودي مجرد رئيس صوري ورجل يكافح المرض، باتوا يرونه فجأةً رادعًا قويًا لاندفاع نجله المبتدئ نحو الإصلاحات.
التغيرات في السلوكيات تجاه اليهود
ولكن لم تتغير وجهات النظر السعودية تجاه إسرئيل فحسب، أقله بالنسبة إلى بعض المتخصصين الحضريين من الشباب. فأنا لست على دراية بأي أدلة استطلاعية دامغة حول هذه المسألة من الأعوام الأخيرة، ولكنني أستند إلى الانطباع الذي أخذته، خصوصًا لدى مئات الآلاف من السعوديين الذين سعوا إلى إكمال تعليمهم ما بعد الثانوي في الخارج، فبنوا بنتيجة ذلك علاقات ودية مع اليهود المحليين وطوّروها.
فعلى سبيل المثال، أخبرني شاب سعودي التقيته ويعمل حاليًا كمدير مكتب تلفزيوني، أن أفضل صديق لوالده وزميله في الصف في إطار برنامج دراسات عليا في جامعة ميشيغان كان يهوديًا، ولذلك ما زال للرجلين السعوديين نظرة إيجابية تجاه اليهود اليوم. وأخبر شاب سعودي آخر يعمل حاليًا في معهد أبحاث خاص عريق في الرياض قصته الشخصية: عندما بدأ بدراسة الماجستير في الدراسات الشرق أوسطية في جامعة يوتا، أوصاه زميل أكبر سنًا في البرنامج نفسه باستئجار شقة في أحد الحيين القريبين "حيث يعيش الكثير من اليهود". وشرح زميله أن هذه الأحياء هي الأكثر ترجيحًا بأن تكون "آمنةً ونظيفةً وتضم مدارس جيدة وجيرانًا ودودين". وبالطبع، عمل الشخص السعودي الذي تعرفت إليه حديثًا بهذه النصيحة وعاد بنظرة إيجابية تجاه لليهود.
وصحيح أنّ هاتين هما مجرد حكايتين، لكن لو خاض ولو جزء من الـ120 ألف سعودي الذين يرتادون حاليًا الجامعات في الولايات المتحدة تجارب مماثلة، قد يكون لذلك أثر واسع النطاق على وجهات النظر المحلية تجاه اليهود. وبالطبع، تبرز أيضًا حكايات حول طلاب سعوديين منفردين أصبحوا أكثر نفورًا وتحيزًا وحتى تطرفًا خلال دراستهم في الدول الغربية، وهناك احتمال أصغر بأن ألتقي بهم شخصيًا. ولكن يبدو أنه على الأقل اليوم تتم موازنة هذه الشرائح من المجتمع السعودي الانعزالية تقليديًا أو المعتدة بنفسها بشدة، بشرائح منفتحة حديثًا وأكثر تسامحًا.
ويمكن دعم هذا الرأي من خلال النظر إلى وسائل الإعلام السعودية السائدة، حيث بات اليوم غياب الأفكار المجازية المعادية للسامية القديمة واضحًا بشدة. (بالرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي تخبر لسوء الحظ قصةً مغايرةً إلى حد كبير). عوضًا عن ذلك، قد نرى اليوم حتى مقالةً متعاطفةً عابرةً عن مسألة يهودية معينة، وتكون تاريخيةً عادةً وليس معاصرة، في الصحافة السعودية.
وبشكل مماثل، أصبح المسؤول الجديد عن "رابطة العالم الإسلامي" التي تتخذ جدة مقرًا لها، الشيخ محمد العيسى، في العام الماضي بالذات أكثر صراحةً في هذا السياق، من خلال رسائل باللغتين العربية والإنكليزية، لم يكتفِ فيها باستنكار المحرقة وناكريها في اليوم الحاضر، ولكنه أيضًا روّج لرؤية عن الإسلام المتسامح تجاه الأديان الأخرى، بما فيها اليهودية. ويشير خبير في الرابطة إلى التناقض الفادح بين هذه الرسالة وكافة الرسائل السابقة الصادرة عن تلك المنظمة ذات القيادة السعودية. وقال عدة سعوديين تحدثت معهم في الرياض مؤخرًا إنهم مدركون لهذا الخطاب المؤسساتي الإسلامي المختلف والأكثر انفتاحًا وحكمةً ويقدّرونه، كما أملوا بأن يستمر ويترسّخ.
وهنا أيضًا، توفر بيانات الاستطلاع بعض الأدلة الملموسة عن هذا التحول في المواقف. ففي الاستطلاعات التي أشرفتُ عليها في منتصف عام 2015 ومنتصف عام 2017، سُئل السعوديون ما إذا كانوا يدعمون أو يعارضون التصريح الآتي: "يجب أن نسمع أولئك الذين يقترحون تفسير الإسلام بطريقة أكثر اعتدالًا وتسامحًا وحداثة". وعلى مر هاتين السنتين، تضاعفت فعليًا النسبة الداعمة لهذا التغيير، ولكن فقط من 15 في المئة إلى 30 في المئة. أما الاستطلاع التالي الذي من المخطط إجراؤه في تشرين الأول/أكتوبر، فسيكشف لنا ما إذا كان هذا التوجه الناشئ سيستمر أم لا.
الخلاصة: ما مدى التغيير الحاصل ولأي غرض؟
انطلاقًا من الموارد المحدودة المتوافرة لدينا، يبدو أن هذه التحولات في وجهات النظر السعودية تجاه إسرائيل واليهود حقيقيةً جدًا، حتى ولو لم تكن شاملة. فقد يكون لديها تأثيرات طويلة الأمد على السياسة السعودية، ولكن ما من إشارة بأنها ستؤدي إلى أي تحولات جذرية في الرأي العام في أي وقت قريب. وسيعتمد أثرها النهائي على كيفية تفاعلها مع عوامل أخرى متعددة تؤثر على استقرار المملكة وقدراتها ونواياها: انطلاقًا من التفضيلات الشخصية وصولًا إلى سياسات القصر السعودي فالتطورات الاقتصادية أو الأمنية أو الدولية وخصوصًا الدبلوماسية العربية المشتركة.
وبالرغم من ذلك، إن التغيرات الجارية في المواقف حاليًا، ليس على رأس المجتمع السعودي فحسب ولكن أيضًا في وسطه، توفر أرضيةً لتوقّع استمرار المملكة العربية السعودية بأداء دور معتدل (ولو كان بمعظمه خلف الكواليس) وناشط في الشؤون العربية-الإسرائيلية وتلك المشتركة بين الأديان. وبصورة خاصة، أفاد الوسيط الأمريكي في الشرق الأوسط جيسون غرينبلات في مقابلة لم يتم تسليط الضوء عليها بما يكفي الأسبوع الماضي، بأنه لم يتوقع "موافقة" عربية واسعة عند إطلاق خطة السلام العربية-الإسرائيلية لإدارة ترامب في نهاية المطاف، إلا أنه يرى آفاقًا معقولة للقبول وحتى "الدعم" العربي. وقال إن الدول العربية المحيطة ستؤدي حتمًا دورًا إيجابيًا في هذا السيناريو، ولو كان ثانويًا.
وبالنظر إلى الخلفية المبيّنة أعلاه، يبدو سيناريو من هذا القبيل على الأقل نتيجةً محتملةً على المدى المتوسط. فوجهات النظر تجاه اليهود وإسرائيل ليست سوى واحدة من المسائل الراهنة المتعددة في المملكة العربية السعودية. وتُعتبر التغييرات في هذا المجال مهمة، إلا أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون تغييرات مطلقة.
تعليق حسن منيمنة:
14 أيلول/سبتمبر 2018
يقدّم دايڤيد پولوك جملة من الملاحظات المنهجية والشخصية المبنية على زيارته للمملكة العربية السعودية، والمتعلقة بالتبدل في المواقف إزاء إسرائيل واليهود. وتنسجم هذه الملاحظات مع ما يمكن متابعته على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء الجيل الأول منها (أي المنتديات والتي لا تزال تحظى بقدر من الإقبال لما تقدمه من حفظ للخصوصية) أو الجيل الثاني (أي فايسبوك وتويتر وغيرها.
ولتقييم هذا التبدل إزاء إسرائيل واليهود، قد يكون من المفيد إدراجه في سياق التحولات الأوسع نطاقاً والتي تشهدها السعودية على مستوى الخطاب السياسي والثقافي، في ظل قيادتها الشابة الجديدة المتمثلة بولي العهد محمد بن سلمان. إذ في حين يلحظ بعض اللين نحو إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي، وإن جاء متقطعاً وعرضياً، فإنه لا بد للانتباه إلى شدّة خطابية مقابلة تطال سائر العرب، بالدرجة الأولى نتيجة للملف القطري ثم فيما يتعداه. ويلحظ في هذا السياق بشكل خاص ارتفاع النبرة في بعض الأوساط «الليبرالية» إزاء الفلسطينيين تحديداً، مع استعمال متكرر لسردية تعلو إلى السطح والعلن من أعماق الخطاب المطموس، وهي أن الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم بالأثمان البخسة (والتنابذ بالأسماء يجعل منهم الفلس-طينيين هنا)، وأن السعودية كانت أسخى من قدّم لهم العون والمساعدة، وأنهم كانوا دوماً من ناكري الجميل.
خطاب «السعودية العظمى» في ظل محمد بن سلمان غالباً ما يطرح على أنه اعتزاز بالوطنية، غير أنه يحفل كذلك بالنبرة العصبية الطاعنة، من التهجم اللفظي على العرب الآخرين، والتأسف على ما منحتهم إياه المملكة، والدعوة إلى إخراجهم منها لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي سياق الطعن بالفلسطينيين، قد ترد الإشارات الإيجابية إلى إسرائيل، بل قد تظهر المغالاة في تأييد مواقفها وتوجهاتها، وإن صاحب ذلك الإقرار بأنها متشددة.
ليس ما يشير إلى تحول عميق في هذه المواقف إزاء إسرائيل، بالمعايير المطلقة، غير أنه، بالاعتبارات النسبية، يتحسّن موقع إسرائيل بعدة درجات نتيجة التراجع المتحقق بالوصف والتصوير والمقام لمن يجري تصويرهم على أنهم خصومها.