الجزيرة القطرية-
كشف وثائقي نشرته فضائية "الجزيرة"، كيفية مساهمة أموال الإمارات، في بيع منازل المقدسيين بالقدس إلى اليهود، تحت سمع وبصر بل وبتغطية من شخصيات في السلطة الفلسطينية، المتهم بعض رموزها بالتواطؤ في ملف التسريب.
الوثائقي الذي حمل اسم "القدس.. نكبة التسريب"، رصد أكثر من 150 بؤرة استيطانية أصبحت موجودة حول المسجد الأقصى والمناطق المحيطة به، لافتا إلى أن جمعيات وشركات وشخصيات وأموال إماراتية وقوانين إسرائيلية جائرة، التهمت مساكن الفلسطينيين المجاورين للمسجد الأقصى وما حوله.
منزل جودة
منزل "جودة"، الذي يبعد عن المسجد الأقصى نحو 350 مترا، كان مثالا لهذا التسريب، عندما طرحت العائلة فكرة بيع المنزل على إدارة الأوقاف ووزارة التربية الفلسطينية في 2012.
لكن البيت بقي بلا مشتر لمدة عامين، إلى أن ظهر "فادي السلامين"، وهو شاب فلسطيني مقرب من "محمد دحلان" ووقع اتفاقية بيع أولية مع صاحب المنزل "أديب جودة".
لكن تلك الاتفاقية فسخت عند المحكمة المركزية، بسبب عدم تمكن "السلامين"، من إتمام ثمن العقار، كما يشرح "جودة"، ليختفي "السلامين"، ويظهر "خالد العطاري" الذي قدّم على أنه رجل أعمال.
وعند ظهور "العطاري"، تداول الأهالي خبر نية بيع منزل عائلة "جودة"، فاتصل "كمال قويدر"، وهو مواطن مقدسي حمل على عاتقه الوقوف في وجه تسريب المنازل، بمحافظ القدس "عدنان الحسيني"، الذي كان حينها على رأس عمله في المحافظة، محذرا من نية تسريب العقار.
يصف "قويدر"، جهود المستوطنين للاستحواذ على عقار عائلة "جودة"، قائلا: "منيش عارف ليش اليهود مستلحمين على هالبيت الموجود بحارة السعدية".
ويواصل استغرابه: "كأن بهذا البيت القريب جدا من المسجد شيئا ما يؤدي إلى الأقصى، لست أدري.. لقد جند اليهود ناسا كثرا للاستيلاء على هذا البيت، من دحلان إلى الإمارات، إلى فادي السلامين، إلى خالد العطاري، إلى أديب جودة، يوجد كثير من النافذين لهم علاقة ببيع هذا البيت".
طمأن "الحسيني"، "قويدر"، في اتصال بأن البيت لن يباع، قائلا: "نحن نتابع الموضوع، لا تقلق حتى لو اشتراه العطاري فلن يستطيع بيعه في النهاية لأن العقار وقف".
وتثبت الوثائق، أن اتفاقية بيع تمت بين عائلة "جودة"، عن طريق "لمياء جودة" و"خالد العطاري"، بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2016، وبعدها انتقل عقد كهرباء المنزل إلى اسم "العطاري".
ويدافع "العطاري" عن نفسه بأن اتفاقية البيع تمت بين عائلة "جودة" وشركة "داهو هولينغز ليمتد"، بشكل مباشر، ولا دخل له فيها، ويرفع في وجه محدثيه ما قال إنها نسخة من الاتفاقية.
لكن دائرة الأملاك الإسرائيلية قطعت الشك باليقين، فمن خلال وثيقة صادرة عنها نجد أن المنزل انتقل من ملكية عائلة جودة إلى ملكية "العطاري"، في 23 أبريل/نيسان 2018، وانتقلت في اليوم نفسه من "العطاري" إلى شركة "داهو هولينغز ليمتد".
وبعد ذلك حصلت جمعية "عطيرد كهونيم" الاستيطانية على المنزل، مقابل دفع 17 مليون دولار للشركة، التي اشترته بمبلغ 2.5 مليون دولار.
وما زاد تأكيد ارتباط "العطاري" بالصفقة التي تبرأ منها في آخر مقابلة صحفية معه، قبيل اختفائه عن الأنظار، هو كون أوراق الشركة التي تحول العقار إليها تحمل اسمه باعتباره متعهدا.
وإثر هذا التسريب، أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني "رامي الحمدلله"، أن السلطة شكلت لجنة للتحقيق في تسريب العقار.
فيما رفضت حركة "فتح"، "الزج بأسماء الشخصيات الوطنية" في ملف القضية، لكن الأهالي الذين يتهمون شخصيات في السلطة لم يلتفتوا إلى ما يعتبرونه تغاضيا أو تعاونا على تسريب العقار، بل شكلوا لجنة محلية لمتابعة القضية.
بؤر استيطانية
استيقظ المقدسيون على بيت "آل جودة"، وقد تحول إلى بؤرة استيطانية في حارة تفصلها عن المسجد الأقصى، بضع دقائق من السير على الأقدام، وهو ما يدل على أن "التزكيات التي حصل عليها العطاري من أجهزة السلطة لم تكن في محلها.
يشار إلى أنه في عام 2000، وضعت (إسرائيل) استراتيجية تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في القدس إلى 12% بحلول عام 2020.
وتوفر سلطات الاحتلال الإسرائيلي أرضية ملائمة لتسريب المنازل عبر ترسانة من الإجراءات والقوانين، أبرزها قوانين "أملاك الغائبين"، و"تنظيم البناء"، و"الجيل الثالث" التي تستهدف كلها إنهاء الوجود الفلسطيني في القدس.
بلغ عدد البيوت المهدومة بحجة عدم الترخيص 1134 بيتا بين عامي 2001 و2014، بمعنى أنه يهدم 6.25 بيوت كل شهر، ويهدم بيتين كل عشرة أيام طوال عقد ونصف.
وفي ظل استعصاء الحصول على تراخيص البناء من بلدية القدس، يلجأ الأهالي إلى البناء بدون ترخيص، و"عندما تبدأ بلدية القدس إصدار أوامر هدم وتقديم المعنيين لمحاكمات وفرض غرامات مالية باهظة تصل إلى مئات آلاف الدولارات على كاهل المواطن المثقل أصلا بالديون والالتزامات المالية، فإن المواطن المقدسي يجد نفسه مضطرا للبحث عن مشتر للعقار.
"بيت الأوزباشي"، المعروف بين المقدسيين بأنه مقر لمدرسة الفتاة، تراكمت عليه ديون الضرائب، ولم تجدِ محاولة وزارة التربية الفلسطينية لجدولة الديون، وتسرب المبنى في النهاية إلى المستوطنين.
واستطاعت سلطات الاحتلال بسياسة النفس الطويل والإجراءات المتلاحقة الاستحواذ على مبان ذات رمزية تاريخية مثل مقرات بنوك، من بينها مقر البنك العربي، ومخفر الشرطة الأردنية بباب العامود، ومبنى البريد والهاتف المقابل لباب الساهرة.
خطة قديمة
يشار إلى أنه في مطلع سبعينيات القرن الماضي تأسست منظمة "عطيرد كوهنيم" على أيدي مجموعة من الحاخامات اليهود، وهي تهدف إلى تهويد مدينة القدس، عبر دعم الاستيطان بشراء المنازل والاستحواذ عليها بكل الطرق، تدعمها في ذلك حكومات (إسرائيل) ومنظومتها الأمنية.
وفي عام 1979 انشقت عنها منظمة "العاد"، دون أن تحيد عن الأهداف الرئيسية للمنظمة الأم، وتحولتا إلى أكثر الجمعيات الاستيطانية العاملة على انتزاع تفوق ديموغرافي في مدينة القدس.
أموال الإمارات
وفي القدس، لم يعد سرا أن اثنين من أبرز من تلاحقهم تهم التسريب، لهم صلة بالإمارات، كما أن المحامي "خالد زبارقة"، وثق دور المال الإماراتي في تسريب أحد المنازل عام 2014 بالقول إن "الأموال تم تحويلها من الإمارات إلى بنك عربي في منطقة العيزرية (تابع للسلطة الفلسطينية) وتم سحب هذه الأموال".
"أبو عنان بيضون"، وهو مواطن مقدسي، ينقل عن "شمس الدين القواسمي" المقرب من "محمد دحلان"، قوله إنه يشتري العقارات للإمارات.
وعند السؤال عن ارتفاع الثمن المعروض الذي يساوي ثلاثة أضعاف القيمة الحقيقية للمنزل الواقع في منطقة غير تجارية، يجيب "القواسمي": "أنا أريد الشراء للإمارات (...)، يمكن أن يريدوه مشفى أو مدرسة"، لكن العقار في النهاية يصل إلى المستوطنين.
وينضم نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني الشيخ "كمال الخطيب"، إلى مؤكدي الدور الإماراتي في تسريب المنازل، بالقول: "لن أتردد في القول إنها الإمارات، قلتها وأؤكد اليوم وغدا أمام الله وأمام شعبنا أن رجال أعمال إماراتيين هم من يقفون خلف هذه الصفقات".
وأضاف: "طبعا من يساعدهم على تمرير هذه الصفقات لا شك أنها عناصر فلسطينية ولن أتردد في القول إن هناك شخصيات فلسطينية نافذة في بعض مؤسسات السلطة".
بيت بيضون
قصة بيت عائلة جودة، كان مجرد سيناريو مطور لقصص تسريب المنازل في سلوان والبلدة القديمة بمدينة القدس، فقصة "بيت بيضون"، يرويها صاحب البيت نفسه "أبو عنان"، قائلا: "استأجر فريد الحاج يحيى، أحد طوابق المنزل بحجة استضافة حجاج من دول مثل ماليزيا وإندونيسيا تفاديا كما يقول لتحولهم إلى فنادق إسرائيلية" وبدأ ربط العلاقات.
عمل "يحيى"، مع مؤسستين إماراتيتين، إحداهما جمعية عجمان الخيرية، وكان يدير جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات، واعترف في مقابلة منشورة بأنه كان يشتري بيوتا مقدسية بأموال إماراتية.
وتتداول على نطاق واسع صورة لـ"فريد" مع السفير الإماراتي السابق في الأردن "علي محمد الشامسي"، وقد كان "يستعرض صوره مع الأمراء الإماراتيين وهم يعانقونه".
لا يجادل "فريد"، في أنه اشترى بيوتا في القدس وسلوان، لكنه يجادل في عددها، فهو ينكر أن تكون 22 أو 23 بيتا، بل يقول إنها يمكن أن تصل إلى ثلاثة بيوت أو أربعة فقط.
اتهم "فريد" بتسريب منازل إلى المستوطنين اليهود، وادعى أنه لا يبيع لمشتبه فيهم، إلا أن كل البيوت التي اشتراها آلت في النهاية إلى أيدي المستوطنين، منها 25 بيتا في بلدة سلوان آلت إليهم دفعة واحدة، حيث استولى عليها المستوطنون في 27 سبتمبر/أيلول 2014، ولا يصدق "أبو عنان بيضون" أن يكون ذلك بمحض الصدفة.
استعصى "أبو عنان" على محاولات "فريد"، إقناعه ببيع البيت، فلجأ السمسار إلى الابن الذي باعه البيت بعقد موقع في 15 يوليو/تموز 2014، ولحق بالمنازل التي وقعت في يدي "فريد" سابقا، وتحولت كلها إلى بؤر استيطانية تتسبب في أذى لجيرانها المقدسيين، لعل ذلك يرغمهم على مغادرة بيوتهم أو بيعها لسمسار ما تحت ضغط الضرائب وجار السوء.
لا نبيع للعرب
البحث في شبكة الإنترنت، كشف عناوين شركات إسرائيلية تعرض منازل مقدسية للبيع، وتثني على مواصفاتها بأنها عربية.
وتتراوح أسعار المنازل المعروضة على مواقع الشركات بين مليون وعشرين مليون دولار.
وعند الاتصال بالمعلنين، رفضوا الإجابة قائلين إن هذه "المنازل لا تباع للعرب".
سألناهم: "ولمن هذه المنازل؟"، فتهربت الموظفة قائلة: "لن يخبرك أحد من يملك المنازل.. دائرة الأملاك والبلدية في (إسرائيل) تعرف، لكن لا أحد يمكن أن يعطيك معلومات سوى المالك أو المحامي الخاص به".
لا نبيع لليهود
وعلى جانب آخر، يظهر صمود مقدسيين في الزود عن مدينتهم من الاستيطان والتسريب، فيحكي المقدسي "عبدالله أبو ناب": "كنت مشردا في خيمة أمام بيتي الذي هددني اليهود بأن يأخذوه.. وجاءتني جمعية إماراتية مشهورة قالت لي: أن تبيع بيتك أحسن من أن يأخذه اليهود ويضيع فما قبلت".
وصلت العروض إلى عشرين مليون دولار، ثمنا للبيت، فرفضها "أبو ناب"، وفضل الترحيل من بيته ومماطلة المحاكم الإسرائيلية، ليبقى البيت مَظلما، على أن يبيعه، ليصل في النهاية إلى المستوطنين.
وعلى الرغم من جهود الجمعيات الاستيطانية في ترغيب المستوطنين بالسكن في المناطق المستولى عليها فإنهم ما زالوا يتقون صولة الأهالي.