الخليج الجديد-
هل نجح مؤتمر وارسو؟ سؤال أجابت عنه العديد من تحليلات مراقبي شؤون الشرق الأوسط بالنفي في إطار ما سبق أن أعلنه وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" حول استهداف حشد دولي نوعي للحد من نفوذ إيران المتنامي إقليميا، باعتبار أن خلاصة نتائج المؤتمر لم تقدم اختراقا في هذا الشأن، إذ ظلت معسكرات (التأييد والرفض والحياد) إزاء طهران كما هي دون تغيير.
لكن مراقبين آخرين رأوا أن المؤتمر، الذي انعقد يومي 13 و14 فبراير/شباط الماضي، كان ناجحا بامتياز قياسا إلى هدفه الحقيقي غير المعلن، وهو فرش أرضية لتحالف خليجي إسرائيلي تتبادل فيه (تل أبيب) المصالح الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاستخباراتية مع السعودية والإمارات والدول التي تدور في فلكهما في إطار تكتل استراتيجي يواجه إيران في المنطقة.
على هذا الصعيد، ثمة مؤشرات على اختراق نوعي بالفعل؛ فقد لخصت صور المؤتمر تحوّله إلى "زفة لنتنياهو"، بتعبير المحلل السياسي "ياسر الزعاترة"، عززت بها السعودية والإمارات الإسناد الإسرائيلي لمشروعهما الإقليمي، مقابل دعم كل منهما لمضي رئيس الوزراء الإسرائيلي قدما في لعبة تصفية القضية الفلسطينية وفق شروط تتجاهل كامل مطالب الحد الأدنى في إقامة دولة على حدود الأراضي المحتلة 1967.
وهيأ المؤتمر لموجة تقارب لافت بين دول خليجية و"إسرائيل"، عبرت عنها لاحقاً "ورشة المنامة" المعنية بالشطر الاقتصادي من صفقة القرن، التي يرفضها الفلسطينيون باعتبارها تنتهكم حقوقهم.
فكرة أمريكية
وتعود فكرة مؤتمر وارسو إلى اقتراح إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الدعوة لاجتماع موسع بهدف تشكيل "تحالف ضد إيران يوازي التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية"، الذي ضم 79 دولة.
ولذا تعمدت الإدارة الأمريكية تزامن عقد المؤتمر مع الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، وتم تأطيره باعتباره حدثا مناهضا لإيران، وإن أعيدت صياغته (رسميا) باعتباره مؤتمرا لـ"السلام والأمن في الشرق الأوسط" على خلفية ضغوط من بعض حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، الذين يرفضون الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران حتى الآن، كما يرفضون صيغة الوصول بالعقوبات ضد طهران إلى الحد الأقصى.
ووفقا لهذه المعطيات كان الاحتفاء السعودي والإماراتي والبحريني بالمؤتمر واضحا باعتباره يصب باتجاه تشكيل تكتل إقليمي ضد إيران، تلعب فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي دور (المحور) وتضمن به دول الخليج المذكورة حماية دولية في صراعها مع الجمهورية الإسلامية.
لكن حكومة (إسرائيل) حددت في تصفية القضية الفلسطينية، خارج إطار الحلول المقترحة عربيا، ثمنا للدخول في هكذا تحالف، وهو ما بدت الأطراف الخليجية الثلاثة مستعدة له تماما، وأكدت عليه سواء قبل المؤتمر، أو أثناء انعقاد جلساته، المفتوحة منها والمغلقة.
وفي الإطار ذاته، جاءت مواقف ممثلي دول تدور في الفلك السعودي الإماراتي، ومنها اليمن؛ حيث تعمد منظمو المؤتمر وضع وزير خارجيتها "خالد اليماني" بجوار "نتنياهو" أثناء جلسات المؤتمر، إضافة إلى تبادلهما العديد من الأحاديث "الودية" وفقا لما نقلته صحيفة "الغارديان" البريطانية عن مساعد الرئيس الأمريكي والمبعوث السابق للمفاوضات الدولية "جيسون غرينبلات".
وذكر "غرينبلات" أن إحدى الجلسات شهدت تعطل ميكروفون "نتنياهو"؛ فقام وزير الخارجية اليمني بإعارته ميكروفونه، وهو ما رد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي مازحا: "إنها بداية التعاون بين (إسرائيل) واليمن".
ووصف "غرينبلات" ما حدث بأنه "لحظة تشرح القلب"؛ ما اعتبره مراقبون مؤشرا على مدى الرضا الأمريكي عن تحقق الهدف الحقيقي من وارسو، وإن بدا المؤتمر ظاهريا بغير جديد "نوعي" في مواجهة إيران.
بحرين جديدة
واعتبر مراقبون رمزية التجاور اليمني الإسرائيلي بالمؤتمر رسالة سعودية إماراتية على ضمان توسيع نطاق التطبيع مع (إسرائيل) من جانب، ومؤشرا على محاولة فرض "يمن ما بعد التسوية" في إطار "نموذج بحريني جديد" يخضع بشكل مطلق لبوصلة الرياض وأبوظبي من جانب آخر.
فمستقبل اليمن تتنازعه إرادة الرياض وأبوظبي من جانب وطهران من جانب آخر، عبر طرفي الصراع الداخلي بالوكالة، في حالة شبيهة بتلك التي تجرى في لبنان، وآلت في النهاية إلى إحكام "حزب الله" على مفاتيح التحكم الاستراتيجي بمقاليد الحكومة اللبنانية بنسبة كبيرة، وهو ما تريد السعودية والإمارات تلافيه في حالة اليمن، عبر محاولة فرض "أمر واقع" أمني بالداخل ودبلوماسي بالخارج.
وفي هذا السياق، قرأ المراقبون تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة اليمنية "راجح بادي" حول استمرار أولوية القضية الفلسطينية لليمن باعتباره محاولة دفاع دبلوماسي أمام ضغوط الرأي العام الرافض كليا للتطبيع مع دولة الاحتلال.
مشاركة خجولة
في المقابل، شهد المؤتمر مشاركة خجولة من قبل قطر والكويت، دون لقاءات ثنائية مع "نتنياهو"؛ إذ أكد نائب وزیر الخارجیة الكویتي "خالد الجارالله" أن بلاده متمسكة بما أعلنته سابقا بشأن كونها آخر بلد عربي سيطبع العلاقات مع (إسرائیل).
وأكد مصدر دبلوماسي كويتي أن وفد بلاده المشارك في وارسو تحاشى اللقاء مع الوفد الإسرائيلي، مشددا على موقف بلاده المبدئي فيما يخص التطبيع، وفقا لما نقلته صحيفة "الراي" الكويتية.
لكن صفحة "إسرائيل في الخليج" على "تويتر"، التابعة للخارجية الإسرائيلية، احتفت بصورة جمعت "نتنياهو" و"الجارالله" على طاولة واحدة، خلال المؤتمر، وذكرت الأخير بالاسم فقط دون غيره، رغم أن الطاولة ضمت مسؤولين آخرين من الخليج ودول العالم.
وفي السياق، وصف رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري السابق، "حمد بن جاسم آل ثاني"، مؤتمر وارسو، بأنه "عرس" لإضاعة الحق الفلسطيني يحضره "شهود ملك"، مشيرا إلى أنه "ليس ضد التطبيع أو إقامة علاقة مع (إسرائيل)، لكن بشرط "أن تكون العلاقة متكافئة وليست على حساب الحقوق الفلسطينية".
سرب عمان
بينما غردت سلطنة عمان كعادتها في سربها الخاص، وهي التي ترتبط بعلاقات مستقرة مع إيران، عبر لقاء جمع وزير خارجيتها "يوسف بن علوي" مع "نتنياهو"، وأثار جدلا واسعا.
فالإعلاميون المرافقون لـ"نتنياهو" تعمدوا كشف زيارة وزير خارجية السلطنة إلى مكان إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي، رغم حرصه على إخفائها من خلال محاولة الدخول عبر مرآب فندق "إنتركونتننتال".
كما قام مكتب "نتنياهو" بإذاعة مضمون كلمات وزراء خارجية السعودية والبحرين والإمارات في جلسة مغلقة بالمؤتمر، أكدوا فيها أن الأولوية بالشرق الأوسط للخطر الإيراني وليس لقضية فلسطين، واعتبروا القصف الإسرائيلي داخل الأراضي السورية "حقا لأي دولة في أن تدافع عن نفسها".
ولم تقتصر حالة الجدل على الإفشاء الإسرائيلي لزيارة الوزير العماني، بل في إعلان محتواها أيضا؛ إذ عرض "بن علوي" المشاركة في حلحلة القضية الفلسطينية على رئيس الوزراء الإسرائيلي، ما اعتبره مراقبون خصما من الرصيد السعودي في إطار صفقة عقدها ولي عهد المملكة "محمد بن سلمان" مع صهر الرئيس الأمريكي "جاريد كوشنر" للضغط على الفلسطينيين من أجل القبول ببنود ما يسمى إعلاميا بـ"صفقة القرن".
وعزز من هذه القراءة تصريح "بن علوي" بأن دور السلطنة في حل القضية الفلسطينية يمكن أن يساهم في الحد من (التشدد الإسلامي) بالمنطقة، وفقا لما أوردته شبكة "روسيا اليوم"، وهو خطاب يسحب البساط من "بن سلمان" الذي سوق لصفقة القرن عبر لقاءات مع مسؤولين عرب وغربيين باعتبار أن السعودية هي من تتولى هذا الملف، حسب التسريبات.
ومن هنا، جاءت قراءة المراقبين لتعمد (إسرائيل) إفشاء ما حاولت دول التطبيع الخليجية إبقاءه طي الكتمان في ضوء هدفين (إقليمي ومحلي) لحكومة اليمين الصهيوني المتطرف.
ويمثل الفيتو الإسرائيلي إزاء أي تحرك سعودي أو إماراتي لامتلاك تكنولوجيا نووية الهدف الإقليمي، باعتبار أن صيغة الحلف المزمع تقوم على أساس "تفوق إسرائيل" على كامل محيطها من الناحية الاستراتيجية.
في هذا الصدد، توسعت وسائل الإعلام الإسرائيلية في تغطية تحرك "نتنياهو" لدى "ترامب" عندما التقاه قبل عام؛ حيث طالبه بعدم تزويد السعودية والإمارات بطائرات "إف 35" وعدم تزويد الرياض بمفاعل نووي للأغراض السلمية، مبررا ذلك بأن نظام الحكم السعودي "يمكن أن يسقط"؛ ما يزيد من "خطورة وقوع هذه المقدرات الاستراتيجية في أيدي المتطرفين"، حسب تعبيره.
حملة انتخابية
أما الهدف المحلي فتمثل في انتخابات الكنيست التي خاضها "نتنياهو" في أبريل/نيسان 2019؛ إذ يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي هرولة دول الخليج على تطبيع العلاقات مع (تل أبيب) إنجازا تاريخيا لحكومته اليمينية، وفرصة لتسجيل نقاط انتخابية.
وفي الوقت الذي التزم وزراء الدول الخليجية الثلاث الصمت إزاء تعمد مكتب "نتنياهو" نشر أحاديثهم المغلقة، هاجم الكثير من المعلقين الإسرائيليين الأخيرة واتهموه بأنه "يتعمد تحقير هؤلاء الوزراء وإهانتهم من أجل تحقيق مكاسب سياسية خاصة".
وعزز من بروباغندا دعاية "نتنياهو" الانتخابية أن محتوى كلمات الوزراء الثلاثة أثبت أن ثمن التطبيع لا يمر عبر القضية الفلسطينية بالضرورة، وهي الأطروحة التي طالما قدمتها بعض أحزاب اليسار الإسرائيلي في محاولة للتنافس الانتخابي مع أحزاب اليمين.
ومن أبرز هذه التصريحات ما قاله وزير الخارجية البحريني "خالد بن أحمد آل خليفة" في حضور "نتنياهو"، محملا كلا من حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" المسؤولية عن إحباط فرص التوصل لتسوية سياسية للقضية الفلسطينية "بناء على تعليمات إيران".
ونجح "نتنياهو" في توظيف هكذا تصريحات إعلاميا في تقديم إثباتات للرأي العام الإسرائيلي بأن السياسات التي تتبناها حكومته لم تفض إلى المس بمكانة (تل أبيب)، بل عززت هذه المكانة إقليميا من خلال تبني دول عربية روايتها.
ماذا حققت (إسرائيل) في أقل من عام؟
لم تكن أشهراً عادية تلك التي مرت بعد مؤتمر وارسو، فعلى مستوى خطوات التطبيع، سارت خطاه بشكل لافت مع دول الخليج، التي شاركت جميعها بورشة البحرين المعنية بتمويل صفقة القرن، رغم عدم إعلان تلك الدول صراحة تأييدها للخطة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط.
حيث قامت بنود الخطة التي طرحها مستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر، في قلب المنامة، على أن تدفع دول الخليج ما مقداره 50 مليار دولار، لتمويل مشاريع في قطاع غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى مصر والأرن ولبنان، ولم تخرج من الدول الست بيانات رفض أو استهجان.
انتهاء الورشة لم يكن آخر تحركات (إسرائيل) لإدامة آلة التطبيع مع دول الخليج، فقد عززت تواجدها بمشهد مستفز لوزير خارجيتها يسرائيل كاتز، الذي زار أبو ظبي، في الأول من يوليو/تموز الماضي، ونشر صوراً له من قلب أكبر مسجد الشيخ زايد، أكبر مساجد الدولة ورابع أكبر مسجد في العالم.
شارك كاتز الذي أصبح أول وزير خارجية إسرائيلي يزور الإمارات، في مؤتمر الأمم المتحدة لشؤون البيئة، والتقي مسؤولا إماراتيا كبيرا وطرح مبادرة للسلام الإقليمي، بحسب بيان لمكتبه، وهي خطوة سبقته بها أواخر العام الماضي وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف.
تأييد عسكري لـ(إسرائيل)
وكان التصعيد مع إيران في مياه الخليج العربي بعد أزمة احتجاز السفن بينها وبين بريطانيا، التي سبقتها اتهامات لطهرات باستهداف سفن في ميناء الفجيرة، وبحر عمان ومواقع سعودية، كان له دور بارز في تقريب الخطر المشترك الذي يجمع تلك الدول "عسكرياً" مع تل أبيب.
وفي حين تحولت السعودية لمحطة تحشد عسكري أمريكي في المنطقة، لم يصدر عن السعودية موقف رسمي معلن حول المشاركة في الحلف الذي ستشارك في (إسرائيل)، إلا أنها اعتادت الدفع باتجاه محاسبة طهران ووقف تدخلاتها.
لكن مسؤولَين بالبنتاغون، أكدا لشبكة "سي إن إن" يوليو/تموز الماضي، أن واشنطن بصدد إرسال 500 جندي أمريكي إلى قاعدة الأمير سلطان، شرق العاصمة السعودية الرياض.
من جهتها تؤيد دولة الإمارات أية مبادرة من شأنها الحفاظ على أمن المنطقة وإبعاد شبح المواجهة مع إيران، فيما استضافت البحرين اجتماعا لقادة عسكريين من دول عدة للهدف نفسه.
(إسرائيل) كانت أكثر صراحة حين أعلن وزير خارجيتها يسرائيل كاتس في 6 أغسطس/آب الماضي أن تل أبيب تشارك في المباحثات الدولية لتشكيل تحالف عسكري دولي بقيادة الولايات المتحدة من خلال جوانب استخباراتية وجوانب أخرى تتناسب مع ما تمتلكه (إسرائيل) من قدرات في هذا الشأن.
كاتس أكد أيضاً أن لـ(إسرائيل) مصلحة إستراتيجية في ضمان أمن الملاحة البحرية في منطقة الخليج العربي "والتي تندرج في إطار السياسات الإسرائيلية الرامية لكبح التهديدات الإيرانية لدول المنطقة، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات مع دول الخليج العربية".
التصريحات الخليجية المؤيدة لدولة الاحتلال "عسكرياً" لم تعد خلف الأبواب المغلقة، أو طاولة الاجتماعات السرية، فها هو وزير خارجية الإمارات، عبدالله بن زايد، يعترف خلال قمة وارسو نفسها في الفديو المسرب له، بحق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها؛ إزاء تهديدات من إيران و"حزب الله".
تبعه في هذه النقطة، وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة، الذي قال في أول لقاء مع وسيلة إعلام إسرائيلية، صحيفة "تايم أوف إسرائيل"، وخلال قمة المنامة، إنّ "إسرائيل وُجدت لتبقى"، وإن لها الحق في أن تعيش داخل حدود آمنة، مؤكداً بشكل صريح أن المنامة وعواصم عربية أخرى تريد التطبيع معها.
ويمكن القول أن الافتراض القائم منذ فترة طويلة بأن العالم العربي لن يتعامل مع (إسرائيل) حتى يتم حل القضية الفلسطينية ثبت أنه فارغ، عبر مؤتمر وارسو وما تلاه؛ ما يعني "كسر الثمن التاريخي الذي دفعته (إسرائيل) مقابل احتلالها للأراضي الفلسطينية"، حسب تعبير "أوليفر هولمز" في مقال نشره بصحيفة "الغارديان" البريطانية.
ثمن التطبيع إذن هو ضمان (إسرائيل) لأمن المهرولين إليها، ولا شروط لمن يطلب الأمن، حسب الإعلامي المقرب من الاستخبارات الإسرائيلية "إيدي كوهين"، الذي هدد بأن أيا من المسؤولين العرب لن يكون بإمكانه فرض السرية على لقاءاته بمسؤولي دولة الاحتلال بعد اليوم.