فؤاد السحيباني- راصد_الخليج-
بكثير من المباركة الشعبية، يخطو الرئيس التونسي الجديد إلى قصر الحكم، وسط توقعات متفائلة من أنصاره، ومرحبة من غيرهم، لا صوت في تونس يحاول النشاز عن الأغلبية الواضحة، التي حملت الأستاذ الجامعي المرموق إلى رأس السلطة، بعد ثورة الياسمين، وعقب فترة انتقالية سارت بطريقة أقرب للهدوء.
في البدء كانت الكلمة السحرية "الثقة" هي مفتاح الأمل والحل والعنوان، لانتخابات شهدت غرائب بالنسبة لعالمنا العربي، المرشح الفائز رفض أن يستغل سجن خصمه في جولة الإعادة، ونفض يديه من أجهزة وشخصيات حاولت دعمه ماديًا وإعلاميًا، وقدم الدرس الأهم لكل حاكم عربي، درس قديم يتجدد ويتأكد الشعب هو القائد والمعلم والخالد أبدًا، وعليه كان طريقه سهلًا إلى الحكم، وبقدر ما سيستطيع ترجمة الالتفاف الشبابي الواسع حوله في تجربة سياسية واعدة، بقدر ما سيستكمل كتابة الإجابة التونسية لأزمة المنطقة الموبوءة بالاستبداد وتسلط الحكام.
تجربة الانتخابات التونسية البيضاء، بعد ربيع السودان المبهر، أثبتت أن الإرادة الشعبية في المنطقة حاضرة بقوة كفاعل ووازن في معادلة المستقبل، خروجًا من دائرة النخب المرتبطة عضويًا ومصالحيًا بالغرب، ففي تونس كان جزءاً من التصويت لقيس سعيد عبارة عن تصويت عقابي للنخبة السياسية بالكامل، إدانة نهائية لمرحلة "بن علي" ورجالها وسياسييها، فيما كان الخيار السوداني ضد إعطاء كل السلطات لمجلس عسكري، يعيد إنتاج بشير جديد-قديم، وبالتالي فإن الكلمة العليا كانت للشعوب لا النخب والأحزاب.
الراية الوطنية الجامعة، والأهم، في حملة قيس سعيد، كانت فلسطين، وكلماته لإدانة التطبيع أعطت له ثقلًا هائلًا وسط تيار صلب، يرفض كل تعامل رسمي أو شعبي مع الكيان المغتصب، على حساب الشعب العربي الفلسطيني، ولا غرابة ان كانت أعلام فلسطين وصور الأقصى هي الحاضرة في مسيرات مؤيدي الرئيس التونسي الجديد.
باختصار غير مخل، "سعيد" هو الشخصية العربية التي تحمل قضايانا بوضوح، وبلا مواربة، اعتبر الكيان هو العدو، فيما منافسه متهم بعلاقات فساد أحد أطرافها هو مستشار سابق للأمن القومي الصهيوني، وكانت هذه النقطة من مناظرته مع القروي –المرشح الخاسر- هي التي ضاعفت أعداد المقترعين في جولة الحسم، فبينما أعلن "سعيد" أنه يعتبر التطبيع جريمة وخيانة عظمى، وأكثر من ذلك قال نصًا: إنه "مصطلح هزيمة استنبط بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد"، كان "القروي" يريد أن يطبع العلاقات، ويعتبرها ضرورة سياسية!.
في تونس كان المرشح يحمل العبء عن شعبه، فيعلن ما يريده الناس واضحًا، بكلمات لا لبس فيها ولا احتمالات تأويل، فبجانب القضية القومية المركزية –فلسطين- كان خطاب "سعيد" منحازًا لدولة القانون والشفافية سياسيًا، ويريد التصدي للبطالة والإفقار، في توجه اجتماعي جيد في إحساسه بمعاناة الجيل الجديد.
الثمرة التونسية توشك على النضج، بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي، بفوز الشارع والمواطن، وهذا أول أركان عملية تغيير واسعة، عميقة، وهائلة، لكن الثقة التي حصل بموجبها الرئيس على نحو 73% من الأصوات الصحيحة، تجعل من كل الآمال ممكنة، سواء تجاوز الوضع الاقتصادي الصعب، أو تشكيل حكومة جديدة، تعيد الاتزان لمفاصل الدولة، والتأسيس لجمهورية ثانية، تعبر بصدق عن تطلعات وأحلام الشباب في بلدهم.
نظام حكم جديد معزز بثقة شعبية مبدئية هو أول ضرورة لقيادة عملية تغيير، فالشعوب لا تلقي بآمالها مطروحة لمن أراد أو امتلك القوة وكفى، وهذه نقطة الفصل بين التغيير التونسي النظيف، والتغيير السعودي إلى أسفل سافلين، التغيير إلى المجهول والهزائم ومخاصمة العربي والذوبان عشقًا في الصهيوني والأميركي.
ولي العهد السعودي في نفس توقيت انتخابات تونس، أرسل وفدًا يمثل فريق كرة القدم إلى المسجد الأقصى، ليمارس التطبيع العلني، بعد تقارير عديدة –عالمية وصهيونية- أشارت إلى وجود تنسيق هائل بين تل أبيب والرياض، خاصة في حرب اليمن وملفات الدفاع الجوي!
الغريب إن الملفين شهدا هزائم غير مسبوقة تاريخيًا للمملكة، فحرب اليمن انتهت عمليًا، بكارثة اقتصادية محققة، ونكسة لمكانة السعودية بين الشعوب الإسلامية كلها، وجيرة انقلبت إلى عداء ورغبة في الثأر، وبعد أن تمكن اليمنيون من ضرب محطة "بقيق"، وإصابة نصف صادرات النفط بسكتة دماغية، بواسطة طائرات مسيرة وصواريخ باليستية، ظهر أن كل وسائل الدفاع لم تجد نفعًا، وهي أقرب لشراء الهواء بمليارات الدولارات.
الأمير المندفع في سياساته مصمم على عدم قراءة دروسه، فمنذ أسابيع فقط، تعرض المدون السعودي الزائر للكيان إلى اعتداءات وإهانات لا حصر لها من الفلسطينيين في القدس الشريف، وإلى اللعن من كل عربي، وهدف عار أمام سهام مواقع التواصل الاجتماعي، فدفع "بن سلمان" ببعثته الرياضية إلى نفس الخندق المهلك، وورائهم دولة تتفنن في معاداة الشعور الديني والوطني والقومي، ليس لشعبها فقط، وإنما لأمتها كلها.
وبالطبع فإن دولة ما قررت التضاد مع الأماني الطبيعية لشعبها، ليس لها أن تحلم بتضحيات وتفاني من الشعب في إطار خطة تحول وطني إلى عصر جديد، ليس لها أن تتمنى مشاركة الناس في العبء، وليس لها أن تظن واهمة بنجاح في نهاية الطريق.. فهذا الطريق له نهاية واحدة، انفصال مروع بين الشارع وقصر الحكم، يزيد الشكوك –العميقة أصلًا- بقدرة الأمير الحالم على صعود كرسي الحكم.