محمد عايش- القدس العربي-
العالم العربي يشهد حاليا الموجة الثالثة من التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، لكن هذه الموجة بكل تأكيد هي الأخطر، والأكثر كثافة وعمقا من أي موجة تطبيع سابقة مع الاحتلال، فضلا عن أنها مشبوهة، وتؤسس لتحول شامل في الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أي أنها تؤسس ليس فقط لشرعنة الاحتلال، وإنما أيضاً لإعادة تموضع إسرائيل في المنطقة، وتحويلها إلى «دولة مركزية» في الشرق الأوسط والعالم العربي.
خلال السنوات السبعين الماضية من الصراع العربي الإسرائيلي، لم نشهد مثل هذا المستوى من الارتماء العربي في الحضن الصهيوني، بما في ذلك الفترة التي شهدت المفاوضات مع إسرائيل، والتي أدت إلى توقيع الأردن ومنظمة التحرير اتفاقات سلام مع تل أبيب، ما يعني أن المنطقة العربية تشهد تحولا خطيرا، ومحاولة لتغيير الأولويات، وصولا إلى جعل إسرائيل دولة صديقة، وليس فقط الاستسلام في هذا الصراع مع الاحتلال.
التطبيع بين العرب وإسرائيل شهد ثلاثة مستويات، بدأ الأول في أعقاب زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس سنة 1977، وواقع الحال أن تل أبيب كانت معزولة عربياً حتى ذلك التاريخ، ولم يكن مطروحاً ولا متوقعا إقامة أي علاقات رسمية بينها وبين أي دولة عربية، خاصة أن مبادرة «روجرز» الشهيرة التي وافقت عليها كل من مصر والأردن سنة 1970، منيت بفشل ذريع، ولم تتطور حتى إلى مستوى البدء بالتفاوض مع الإسرائيليين.
أما الموجة الثانية للتطبيع مع إسرائيل، فبدأت في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام سنة 1990، وبدء المفاوضات المباشرة بين العرب وتل أبيب، التي انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، ثم «وادي عربة» سنة 1994، وفي ذلك أوقفت أغلب الدول العربية مقاطعتها لإسرائيل من الدرجة الثالثة، أي أنها لم تقاطع الشركات الأجنبية التي تقيم علاقات مع إسرائيل، ولم تعد تفرض عليها أي عقوبات، هذا فضلاً عن أن مكتب مقاطعة إسرائيل التابع للجامعة العربية تحول إلى مجرد ديكور، وبدلاً من مقاطعة تل أبيب، قاطع العرب مكتب المقاطعة، ولم يعد هذا المكتب يعقد أي اجتماع منذ عام 1993. بعد عام 2013 بدأت الموجة الثالثة من التطبيع، وهي موجة أهم ما يميزها أنها ليست تطبيعا، بقدر ما أنها ارتماء في الحضن الصهيوني، وسباق عربي نحو تل أبيب، كما أن أهم ما يميز هذه الموجة أنها خليجية بامتياز، فطوال السنوات الماضية كانت دول عربية عديدة تقيم علاقات علنية أو سرية، بعضها سياسي وبعضها تجاري، وأحيانا رياضي، كما أن الدول التي أبرمت اتفاقات سلام (الأردن ومصر) ظلت علاقاتها مع تل أبيب توصف بأنها «باردة»، كما أنها ظلت محصورة في الجانب الرسمي مع استمرار الرفض الشعبي.
في الموجة الثالثة نرصد منذ سنوات جيوشا إلكترونية على شبكات التواصل الاجتماعي، تريد تغيير العقيدة التي تتبناها الشعوب، وتريد غسل أدمغة الناس، وتروج إلى أن «إسرائيل أخطر من إيران»، وأن «الفلسطينيين لم نستفد منهم شيئاً» وغير ذلك من المقولات التي تهدف إلى التبرير والتمهيد لإقامة علاقات مباشرة مع الاحتلال الاسرائيلي. كما أنَّ هذه الموجة التطبيعية تقوم ولأول مرة على محاولة إقناع العرب بتحويل العداء من إسرائيل إلى الفلسطينيين، إذ أن كل المطبعين على امتداد الصراع كانوا يبررون تطبيعهم بأنهم يريدون نصرة القضية الفلسطينية عبر إقامة علاقات مع إسرائيل، إلا هذه المرة فإن التبرير مغاير تماماً، ويقوم على أن الفلسطينيين هم العدو والإسرائيليين هم الصديق، وهذه مقاربة غير مسبوقة وبالغة الخطورة، لأنها تؤدي إلى تفتيت الشارع العربي لصالح عدوه الإسرائيلي.
ثمة حملة بالغة الخطورة يشهدها العالم العربي تريد تغيير القناعات والعقائد لدى الناس، لتبرير التطبيع مع إسرائيل، وصولاً إلى جعل تل أبيب الصديق في نظر الكثيرين بينما الفلسطينيون هم الأعداء، ما يعني أن التطبيع ينتقل لأول مرة الى المستوى الشعبي، بعد كان محصورا في بعض المستويات الرسمية فقط، وإذا نجحت هذه الحملة فهذا يعني أن إسرائيل ستصبح الدولة المركزية الأولى في المنطقة، بعد أن ظلت في ضمير كل عربي طوال العقود الماضية هي قوة الاحتلال التي تعتدي على الأرض المقدسة.