القدس العربي-
في الوقت الذي يغرق فيه العالم العربي في حروب أهلية أو تتكرّس في أرجائه أنظمة الحكم المطلق، أصبح «نموذج دبي» للنجاح المالي والسياحي أشبه بأيديولوجيا كبرى تحلّ محل الأيديولوجيات القومية والشيوعية والإسلامية التي سادت مرحلة ما بعد الاستقلال، وبدلا من حروب السياسة وشجونها صار الهدف الرئيسي للحكومات هو صرف تركيز المواطنين على الرياضة والترفيه والتجارة والسياحة والخدمات.
أوصل تطبيق هذه الاستراتيجية الوضع العربي ـ الإسرائيلي إلى وضعية عجيبة إلى درجة أن تقوم مغنية إسرائيلية (وليس عربية) بتقديم أغنية ساخرة بعنوان «دبي» تقول فيها ما معناه: لو أن كل العرب يلغون فكرة إلقاء الإسرائيليين في الماء وينسون حصار غزة وشعب فلسطين المنكوب ويصبحوا «زي دبي»!
كان طبيعيا، ضمن هذا السياق، على وزارة الخارجية الإسرائيلية أن تجد الوقت مناسبا لطرح مشروع «سرّي» على حد وصف صحيفة «يديعوت أحرونوت» عنوانه «ربط الأراضي بالشاحنات» على الرغم من التوحّش الفالت من عقاله ضد الفلسطينيين الذي عبّر عنه العدوان على مخيم جنين وغارات المستوطنين على البلدات والقرى الفلسطينية والاقتحامات اليومية للأقصى.
هذا المشروع المنفصل تماما عن واقع ما يجري ضد الفلسطينيين (وحتى عما يجري في إسرائيل، المنقسمة حول محاولة نتنياهو تنفيذ انقلاب على النظام القضائي الإسرائيلي واستتباعه لسلطته) يحتاج شركاء قادرين على الانفصام نفسه عن الواقع، بحيث يمكنهم تحييد أشكال «الامتعاض» من استهداف الشعب الفلسطيني (على شاكلة ما حصل من امتناع المغرب عن استضافة «مؤتمر النقب») وكذلك تحييد «الامتعاض» الأممي والدولي، والأمريكي من قضية «الانقلاب القضائي» للتركيز على… الشاحنات التي ستفتح طريقا يبدأ في الإمارات ويمرّ بالسعودية والأردن وصولا إلى ميناء حيفا، لإيصال البضائع والسيّاح القادمين من الخليج إلى أوروبا وبالعكس، وبذلك يصبح العرب «زي دبي»!
يقدّم هذا المشروع، حسب تفكير خارجية إسرائيل، تعويضا لكل من الأطراف المشاركة فيه، فبالنسبة للسعودية، فهو يقدم عرضا يمكن أن يتقاطع مع خطط القيادة السعودية المتجهة لتصفير المشاكل مع إيران وتسوية الأزمة اليمنية والتركيز على الاستثمار، وبالنسبة للأردن، الذي تصليه تل أبيب بأشكال الاستهداف للفلسطينيين، والتهديد بتهجيرهم نحوه، وبالاعتداء اليومي على المناطق المقدسة التي تقع تحت حمايتها، فإنه يؤمّله أيضا بجزء من «الرخاء» والحركة التجارية والسياحية المفترضة وهكذا.
أما حماس أمريكا للمشروع، فيعود لتقاطعه مع استراتيجياتها الدولية الكبرى للصراع مع روسيا وصدها في أوكرانيا، ومع الصين، عبر محاولة فكّ ارتباط زعيمها شي جينبينغ بالرئيس الروسي بوتين، بالتركيز أيضا على قضايا الاستثمار والتجارة والعولمة، من جهة، وعبر التصدّي لمشاريع بكين التوسعية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
سيواجه المشروع مخططات الصين المعاكسة، التي كان آخر فصولها العربية، خطة مشروع ضخم للنقل والبنية التحتية يدعى «طريق التنمية الاستراتيجي» والذي يربط بين ميناء الفاو في الخليج العربي، في مدينة البصرة، وصولا إلى الشمال، فتركيا، ثم أوروبا.
لطمأنة الدولة المصرية، وربما دول عربية أخرى، تحدث المسؤولون العراقيون عن أن هذا المشروع لن يؤثر على قناة السويس، كما أن المشروع الإسرائيلي لم يتطرق لتأثيراته السلبية، لكن كلا المشروعين، اللذين يمثلان خطين سياسيين استراتيجيين في مجال الصراع العالمي، سيؤثران بالتأكيد على ديناميات الاقتصاد العربية، وأوزان وأحجام الدول فيها، وبالتالي فإن المنطقة ليست أمام «طريقي حرير» تربط فيهما الشاحنات الأراضي فحسب، بل أمام طريقين أيضا لدبابات ومدافع الجيوش والحروب الكبرى.