إبراهيم نوار- القدس العربي-
مع كثرة الحديث عن التطبيع مع إسرائيل، واتساع نطاق العلاقات العربية – الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة، واشتداد حدة التطرف الديني والسياسي في إسرائيل، أصبح من الضروري إعادة قراءة تاريخ التطبيع منذ توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 حتى الآن. هذه الضرورة تنبع من الحاجة إلى تدقيق طبيعة الآثار المترتبة على التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، بمن في ذلك الفلسطينيون أنفسهم، الذين تبادلوا الاعتراف مع إسرائيل في عام 1993، أي منذ 30 عاما. محطات التطبيع الرئيسية تشمل أيضا اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994، واتفاقيات السلام بين الإمارات والبحرين والمغرب عام 2020. نحن إذن إزاء تاريخ للتطبيع يعود إلى 44 عاما، منذ معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية. ويتم ترويج تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل على أساس أن السلام والعلاقات الطبيعية هما الطريق لتحقيق الاستقرار والرخاء. السؤال الكبير الذي يثور هنا هو: هل تحقق الاستقرار والرخاء للمصريين أو الفلسطينيين أو الأردنيين من خلال السلام والتطبيع؟ ولا تكتمل الإجابة من دون أن نعرف أيضا كيف استفادت إسرائيل من التطبيع سياسيا وماذا حققت منه اقتصاديا؟
تهديد الاستقرار السياسي
قام التطبيع بين مصر وإسرائيل على أساس معادلة تعتبر أن التطبيع هو «ثمن السلام» وأن السلام بين إسرائيل والدول العربية يقوم على أساس مبدأ «الأرض مقابل السلام». وقد أرست هذه الصيغة قواعد واضحة ومستقرة، تمت إعادة التأكيد عليها في «مبادرة السلام العربية»، التي لعب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان دورا مهما في ترويجها، من خلال وسائل الإعلام الأمريكية والعربية، حتى تبنتها القمة العربية في بيروت عام 2002. ومنذ ذلك الوقت حتى عام 2020 استمر الإجماع العربي على مبدأ الأرض مقابل السلام، وأنه لا تطبيع مع إسرائيل دون إنهاء احتلالها للضفة الغربية، وحصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير مصيره. لكن اتفاقيات أبراهام قامت على مبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام»، وهو ما يعتبر انقلابا في مفهوم كل من السلام والتطبيع.
ومع ذلك، فإن الرفض الشعبي للتطبيع في الدول العربية، أدى إلى إثارة قلاقل وتوترات سياسية في كل من مصر والأردن والضفة الغربية وغزة. وبينما حققت إسرائيل مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية واضحة من خلال التطبيع، فإن الأطراف العربية التي وقعت اتفاقيات للتطبيع مع إسرائيل حتى عام 2020 ، وهي مصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، تعرضت لموجات قوية من عدم الاستقرار السياسي، صاحبها ارتفاع لنفوذ الجماعات والأحزاب الإسلامية، وهو ما خلق استقطابا حادا في الشارع السياسي بين التيار الإسلامي وأجهزة الحكم. وكان موضوع التطبيع في مصر والأردن وفلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، المحرك الرئيسي للصراع السياسي الداخلي في البلدان الثلاثة. ففي مصر أثارت معاهدة السلام واتفاقيات التطبيع، جدلا كبيرا، التقى فيه الإسلاميون مع التيار القومي العربي، في إدانة السياسة التي قادها الرئيس الراحل أنور السادات، الذي لقي مصرعه برصاص الإسلاميين، بعد عامين تقريبا من توقيع معاهدة السلام والبدء في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وخلال السنوات التالية نشأت علاقة تحالف صامتة على أساس قواعد غير مكتوبة بين الحزب الوطني الحاكم في مصر، والإخوان المسلمين. ولجأت أجهزة الحكم إلى التمسك بسياسة التطبيع شكليا، مع العمل على عرقلته وإصابته بالشلل تجنبا للصداع السياسي والصدام مع الشارع.
صعود النزعة السياسية الدينية
ظاهرة صعود الإسلاميين المرتبطة برفض التطبيع اتخذت مظاهر مختلفة في كل من الأردن وفلسطين. ففي الأردن برزت قوة الإسلاميين داخل البرلمان وفي الشارع السياسي، احتجاجا على اتفاقية وادي عربة (1994). وبسبب ذلك سادت حالة من التوتر بين القصر الهاشمي والبرلمان، وصدرت قوانين لوقف اتفاقيات التطبيع، ما حول السلام الأردني – الإسرائيلي إلى مجرد «سلام بارد» على غرار الحالة المصرية. كذلك فإن توقيع اتفاقية أوسلو في واشنطن عام 1993 كان الشرارة التي أطلقت نفوذ التيار الإسلامي الفلسطيني في كل من غزة والضفة الغربية. وعلى الرغم من أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كان حريصا على إقامة سياج فاصل بين الإدارة الذاتية الفلسطينية في الضفة والقطاع من ناحية، ومنظمة التحرير الفلسطينية بكل تياراتها وفصائلها من ناحية ثانية، تجنبا للصدام بين «النزعة البراغماتية» للإدارة و»النزعة الثورية» للمنظمة، فإن التطورات اللاحقة بعد موت عرفات، أثبتت أن بريق «السلطة» كان كافيا لإسقاط هذا السياج، وفقدت السلطة معظم ما كان لها من تأثير في الشارع الفلسطيني، ثم انفردت حماس بحكم قطاع غزة، فانقسمت الإدارة الفلسطينية وفقدت قوتها. وعلى الرغم من أن اتفاقيات أوسلو ظلت حقيقة واقعة تحكم العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية، فإن اختلاف الرؤى الفلسطينية للتطبيع وما بعده، أدى إلى المزيد من الخسائر السياسية للفلسطينيين.
ومن المثير للتأمل أيضا أن اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والفلسطينيين كانت واحدة من أهم محركات صعود الصهيونية الدينية، والنمو النوعي والكمي في حركة الاستيطان، خصوصا بعد «أوسلو». وفي هذا السياق وقع حادث اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، وحدث توسع كبير في بناء المستوطنات، بعد سقوط حكومة حزب العمل، وصعود تكتل ليكود بقيادة بنيامين نتنياهو إلى السلطة. هذا الانتقال السياسي إلى اليمين الصهيوني الديني يتفق مع طبيعة المشروع الإسرائيلي نفسه، من حيث أساسه التوراتي، الذي يعتبر فلسطين كلها وطنا لكل يهود العالم. وفي مقابل تخبط المشروع السياسي العربي، وزيادة حدة التوتر وعدم الاستقرار، وانتشار الخلافات بين أنظمة الحكم، على خلفية «التطبيع» مع إسرائيل، فإن المشروع السياسي الإسرائيلي حصل على وقود جديد بصعود اليمين الصهيوني الديني. وقد ساعدت التحولات السياسية في إسرائيل بعد توقيع اتفاقيات السلام على استخدام وجود القوات الإسرائيلية في الضفة وغزة (حوالي نصف قوة الجيش الإسرائيلي) من أجل تعزيز قوة المشروع الإسرائيلي، وتوفير الحماية الكافية لإبادة الوجود الفلسطيني، سواء بتدمير المساكن والمنشآت الاقتصادية، أو بقتل الفلسطينيين، أو بتهجيرهم و نفيهم خارج الحدود. وتظهر بيانات الاستيطان في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية أن عدد المستوطنين في الضفة في عام 1979 بعد أكثر من عشر سنوات من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة كان يبلغ حوالي 10 آلاف مستوطن تقريبا، عند توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. وتظهر البيانات الاسرائيلية أن عدد المستوطنين تجاوز 700 ألف مستوطن في بداية العام الحالي، منهم 503 آلاف في الضفة الغربية، وأكثر من 200 ألف مستوطن في القدس الشرقية. هذا يعني أن عددهم زاد بمقدار سبعين مرة عما كانوا عليه عند بدء عملية السلام مع أكبر دولة عربية. وقد استخدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، سياسة التوسع في الاستيطان من أجل خلق حقائق جديدة على الأرض تحول دون إقامة دولة فلسطينية، وتفتح الباب للمزيد من المستوطنات، واستيعاب أعداد أكبر من المهاجرين، إضافة إلى تقطيع أوصال التجمعات السكانية العربية، بإقامة المستوطنات وشق الطرق بينها، واستخدام المستوطنات الجديدة، كخطوط هجوم متقدمة ضد التجمعات السكانية العربية. كذلك فإن مفاوضات أوسلو فتحت الباب أمام خبراء القانون الدولي في إسرائيل لتطوير دفع قانوني بأن الضفة الغربية منطقة متنازع عليها، وليست أرضا محتلة. الهدف من هذا هو تبرير الضم الإداري، واستبعاد تطبيق اتفاقيات جنيف بشأن الأراضي المحتلة عليها. وقد منح تقسيم الضفة الغربية بمقتضى اتفاقيات أوسلو إلى ثلاث مناطق، فرصة كبيرة لتوسيع نطاق النفوذ الإسرائيلي الإداري والعسكري في الضفة الغربية بأكملها. وفي مقابل ذلك فإن السلطة الوطنية الفلسطينية بدت عاجزة تماما عن مواجهة التغول الإسرائيلي في الضفة الغربية، والاعتداءات المتكررة على غزة، في حين كانت منظمات إسلامية أخرى مثل حماس والجهاد أكثر اهتماما بملء الفراغ الذي تركه عجز السلطة الوطنية، بهدف توسيع نطاق نفوذها، وتشكيل طوق للمقاومة حول إسرائيل بالمشاركة مع حزب الله اللبناني.
تحييد الدبلوماسية الأمريكية
وعلى صعيد استقرار العلاقات السياسية الخارجية، فإن إسرائيل نجحت في تحييد الدبلوماسية الأمريكية في القضايا المتعلقة بعملية السلام في الشرق الأوسط، منذ اتفاقيات أوسلو في عهد إدارة كلينتون. ففي تلك الفترة جرت المفاوضات بعيدا عن التأثير المباشر للدبلوماسية الأمريكية، إلا في ما يتعلق بممارسة ضغوط أو ترتيب تفاهمات مع أطراف أخرى مثل الأردن، بما يخدم مصالح الدبلوماسية الإسرائيلية أولا. ويمكن القول بأن إسرائيل منذ تحرك قطار «تطبيع العلاقات» حققت مكاسب قوية، منها اكتشافات الغاز، وتطوير العلاقات مع قبرص واليونان. كما زاد نفوذها في أفريقيا بصورة ملحوظة، تتجلى في علاقات قوية دبلوماسيا واقتصاديا مع دول مثل تشاد وإثيوبيا ورواندا وجنوب السودان.