حسين إبراهيم-
احتفلت إسرائيل بالممرّ الاقتصادي الذي يُفترض أن ينطلق من الهند وينتهي في أوروبا، والمعلَن عن إنشائه على هامش «قمّة العشرين» السبت الماضي. وعلى رغم أن العدو ليس جهة مُوقِّعة على المشروع، إلّا أن عبور الممرّ من فلسطين المحتلّة، يَفترِض ربطاً بالسكك الحديد بين الكيان الإسرائيلي وبين السعودية الموقّعة على مذكّرة التفاهم، عبر الأردن، وبالتالي يؤكد وجهة الرياض المتمثّلة في الفصل بين التطبيعَين الاقتصادي والسياسي، بقبول الأول ورفض الثاني، في انتظار ظروف تسمح بهذا الأخير
أكثر ما يلفت النظر في مذكّرة التفاهم التي جرى التوقيع عليها في «قمّة العشرين» في نيودلهي، لإنشاء ممرّ اقتصادي يربط الهند بأوروبا عبر الخليج، بمشاركة الولايات المتحدة كطرف راعٍ ومستثمر، هو التهليل الإسرائيلي للحدث، لكون ذلك الممرّ سيعبر في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ومن ثمّ إلى أوروبا بحراً. وبمعزل عن الوظيفة الاقتصادية لهذا المشروع، ومدى فائدته للدول والجهات الموقّعة، وهي الولايات المتحدة والهند والسعودية والإمارات والاتحاد الأوروبي وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، وبمعزل عن إمكانية تنفيذه من عدمها، إلّا أن ثمة وظيفة تطبيعية له، تقف وراء الحماسة الإسرائيلية والأميركية تجاهه. فمنذ لحظة التوقيع، توالى صدور البيانات والتعليقات الإسرائيلية، بدءاً من رأس الهرم، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، للترحيب به، كما نشر بعض المسؤولين الإسرائيليين خريطة تُظهر مسار الخطّ، وهو يمرّ في فلسطين المحتلّة، بعد أن ينطلق من الهند بحراً إلى الإمارات، ثمّ برّاً إلى السعودية، ومنها إلى الأردن وفلسطين المحتلّة عبر خطّ سكّة حديد، ثمّ بحراً وصولاً إلى اليونان، ومنها إلى أوروبا برّاً.
والسعودية التي ما زالت تمانع التطبيع السياسي وإقامة علاقات رسمية مباشرة مع العدو لأسباب تتعلّق بتركيبتها الداخلية وموقعها الإقليمي، لا تمانع التطبيع الاقتصادي، بل تتحمّس له، وكثيراً ما تحدّثت تقارير عن زيارات لرجال أعمال إسرائيليين إلى المملكة. ولذلك، لا يبدو أن لدى حكامها الحاليين اعتراضاً على عبور «الممرّ الهندي» أراضيهم إلى فلسطين، وهو ما يتحدّث عنه نتنياهو منذ زمن. وهذا هو مغزى الكلام الإسرائيلي المتكرّر عن أن التطبيع مع السعودية يحتاج إلى وقت. وبحسب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي أجرى هذه المرّة مصافحة، لا ضرب قبضات، مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، خلال قمّة نيودلهي، فإن المشروع سيسهم في تطوير وتأهيل البنى التحتية، وربط الموانئ، وزيادة مرور السلع والخدمات، وتعزيز التبادل التجاري بين الدول الموقّعة، وأيضاً مدّ خطوط أنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة في العالم.
في المقابل، لا يمكن أيضاً إلّا وضع ذلك المشروع في سياق التنافس بين أقطاب العالم، الذين يسعى كلّ منهم إلى اجتذاب أكبر عدد من الدول الأخرى إلى صفّه، في محاولة لتعزيز جبهته في هذا الصراع. لذا، لم يكن صدفة غياب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن قمّة نيودلهي؛ ففي رأس الأخير خريطة مستقبلية مختلفة للعالم، وإن كانت تشمل بعض الدول الموقّعة على الممرّ الاقتصادي الجديد، كالسعودية والهند وغيرهما. كما لا يمكن، في قراءة ما جرى في نيودلهي، إلّا المقارنة مع مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها شي جين بينغ قبل سنوات، مع ملاحظة أن نطاق المبادرة الصينية أوسع بكثير، والاستثمارات التي تمّ ضخها بالفعل فيها، أضخم بما لا يقاس من تلك التي ستُستثمر في المشروع الجديد، والتي تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، 20 مليار دولار من السعودية، وهو مبلغ متواضع لهذا النوع من المبادرات.
وعليه، لا يمثّل التوقيع السعودي تغييراً جوهرياً في سياسة ابن سلمان، بمعنى عودة إلى الحظيرة الأميركية؛ فما زال الرجل يرفض رفع مستوى إنتاج النفط، ويُجري تمديد التخفيضات الكبرى التي بادر إليها من جانب واحد، شهراً بعد آخر، وكذلك تلك التي قام بها بالاتفاق مع روسيا ضمن منظّمة «أوبك بلس»؛ كما ما زالت العلاقات مع إيران تمضي في المسار الإيجابي الناتج من «اتفاق بكين»، حتى وإن ظلّت الولايات المتحدة تمانع تحقيق تقدّم في حلّ الملفات الكثيرة التي يمكن للبلدين المساعدة في حلّها إن تُركا وشأنهما؛ والأهمّ أن ابن سلمان ما زال يرفض الانتقال إلى جهة التحالف مع إسرائيل. لكن ثمّة أسباب أخرى تفسّر حماسة ولي العهد الظاهرة للمشروع، أهمّها أن إمكانات السعودية الاقتصادية الهائلة، ولا سيما في ظلّ استمرار ارتفاع أسعار النفط، تؤهّلها للقيام بدور مؤثّر على المسرح العالمي، بما يقوّي النظام ضدّ خصومه الداخليين والخارجيين؛ وأن «مجموعة العشرين» التي عادةً ما تحظى بتغطية واسعة في الإعلام السعودي، شكّلت المنتدى الذي سعى ولي العهد إلى الخروج من عزلته عبره، بعد أن ضيّق عليه الأميركيون بموجب سياسة بايدن التي كانت في الأساس تهدف إلى نبذه، قبل أن تتغيّر هي الأخرى بسبب الظروف، على رغم أن أهمية المجموعة تتراجع إذا ما قيست بمنتديات أخرى مثل «مجموعة السبع».
وضع فلسطين المحتلّة على مسار الممر، هو إجراء متعمّد من الدول الموقّعة، عربية كانت أم غربية، لحذف دور لبنان الذي تغنّى طويلاً بكونه صلة الوصل بين أوروبا والخليج، وأيضاً لاستثناء العراق وسوريا اللذين يمكن لهما أن يكونا جزءاً من طريق طبيعي يصل الخليج بأوروبا، عبر تركيا. وهذا، على كلّ حال، وارد في مشروع «طريق التنمية» العراقي الذي ينطلق من شطّ العرب في جنوب العراق، إلى الحدود العراقية - التركية، ومن ثمّ إلى أوروبا، ويمكن أن يُستخدم أيضاً لنقل إمدادات الطاقة ذهاباً وإياباً بين المنطقة وبين أوروبا. وعلى رغم تزايد الإعلان عن الممرّات والطرق الدولية، في إطار الصراع على النفوذ الذي يشتدّ في العالم، إلّا أن هذه السياسة تبقى امتيازاً للصين التي يمكّنها موقعها الطبيعي من الاستفادة منها، كما فعلت منذ القدم على «طريق الحرير»، الذي يُفترض أن تَخلفه وتوسّعه مبادرة «الحزام والطريق». وذلك ما يفعله الصينيون للوصول إلى المناطق والشعوب حول العالم من خلال المشاريع العملاقة، بدلاً من الحروب والعدوان والحصار وتدمير البلدان. هو، إذاً، صراع طويل بين الشرق والغرب نهايته أن يتفوّق اقتصاد على آخر، وثقافة على أخرى، ونمط حياة على آخر.
في العصر الأميركي، استُخدمت الطرق والممرّات في الحروب ونهب الثروات واحتلال الأرض. وهذا الممرّ الجديد، يُراد له أميركياً أن يثبّت الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ويدمج إسرائيل في المنطقة ولو تدريجياً. لكن العالم لم يَعُد في ذلك العصر، والصراعات الكبرى حالياً لا تحسمها الطرق والممرات، بل من سيفوز في تلك الصراعات التي تسبّبت بها المحاولات الأميركية المستمرّة لتأبيد الهيمنة على العالم، كما يجري حالياً في أوكرانيا، حيث يحاذر أقرب حلفاء أميركا، الركون إلى قدرتها على تحقيق انتصار. وإلّا، فلماذا نأت السعودية بنفسها عن الولايات المتحدة في هذه الحرب؟ ولماذا لا تجرؤ إسرائيل على الاصطفاف علانية إلى جانب أوكرانيا، وفق الرغبة الأميركية؟